in

كيف يتمكن سكان هذه الجزيرة الصغيرة من خداع الموت والعيش فوق سنّ المائة!

جزيرة إيكاريا في اليونان

يعيش معظمنا في مجتمع يعج بالتكنولوجيات الحديثة والمثيرة، والطب المتقدم، وغزارة ووفرة المأكل والمشرب والملبس، دون أن ننسى الوقت الكافي للتسكع مع الأصدقاء والعائلة في عطل نهاية الأسبوع، وذلك كله بفضل التقدم الكبير الحاصل في ميدان الطب والصحة، وارتفاع جودة الحياة بصفة عامة، وهو الأمر الذي رفع بدوره متوسط العمر المتوقع للفرد، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ارتفع متوسط العمر المتوقع للفرد من 71 سنة في سنة 1970 إلى 78.5 سنة سنة 2018.

يتفوق سكان المملكة المتحدة وكندا في هذا المجال كثيراً، حيث يبلغ متوسط العمر المتوقع للفرد البريطاني 81 سنة بينما يبلغ متوسط العمر المتوقع للفرد الكندي 82 سنة.

قد تعتقد بهذا أن الدول المتقدمة تقدم لقاطنيها أفضل الفرص ليعيشوا حياة طويلة، لكن ماذا لو أخبرناك بأن هناك جزيرة ما تفتقر لمعظم وسائل الرفاهية في الدول المتقدمة ومع ذلك يعيش سكانها ليبلغوا سن الثمانين والتسعين وحتى المائة بدون أي مشاكل أو تعقيدات صحية؟

على قدر ما يبدو الأمر غريبًا، فإن هذه الجزيرة حقيقية وهي تقع في بحر إيجه على بعد 50 كيلومترًا من السواحل التركية، وتعرف باسم (إيكاريا)، وهي عبارة عن جزيرة صغيرة لا تتعدى مساحتها بضعة مئات الكيلومترات المربعة تخضع للسيادة اليونانية، ولا يتعدى كذلك تعداد سكانها تسعة آلاف نسمة.

سميت هذه الجزيرة الصخرية تيمنا بالشخصية الأسطورية اليونانية (إيكاريوس) الفتى الذي حلّق بالقرب من الشمس، ولدى هذه الجزيرة تاريخ مثير، حيث تعرضت للغزو من طرف عدة حضارات ودول، منها الفرس والرومان والأتراك، مما أجبر سكانها على التحول إلى الاكتفاء الذاتي.

بعد الحرب العالمية الثانية التي فقد الإيكاريون فيها الكثير من الأرواح، تم نفي الكثير من الشيوعيين إليها، والذين جلبوا معهم بعض الأفكار الشيوعية عن هيكلة الحياة الاجتماعية، وكانت نتيجة كل هذا الماضي الحافل والقاسي هو مجموعة سكانية تتمتع بخصائص مميزة للغاية، فلا يعيش الإيكاريون لفترات طويلة وحسب، بل إنهم يعيشون تقريبًا بدون أي أمراض أو مشاكل صحية ترافق التقدم في العمر مثل الخرف والاكتئاب المزمن، كما أن متوسط العمر المتوقع لديهم صار يتجاوز ذلك لدى أفضل الدول تقدما في أوروبا وأمريكا بعشرة سنوات كاملة.

ما الذي تتميز به هذه الجزيرة يا ترى لدرجة جعلها تنال لقب ”الجزيرة التي ينسى سكانها أن يموتوا“؟

أحد المسنين في جزيرة إيكاريا التي قيل عنها أنها الجزيرة التي ينسى سكانها أن يموتوا
أحد المسنين في جزيرة إيكاريا التي قيل عنها أنها الجزيرة التي ينسى سكانها أن يموتوا. صورة: Andrea Frazzetta/LUZphoto for The New York Times

إن هذا لسؤال صعب بحق حيث مازال العلماء والباحثون يحاولون فك شيفرته، وما يسعنا فعله الآن هو الوصول إلى بعض الاستنتاجات من خلال مقارنة (إيكاريا) ببعض الأماكن في الدول والبلدان المتقدمة.

لنبدأ مجال المقارنة هذا بالحمية الغذائية: على مر الكثير من السنوات، كانت الرياح القوية التي تهب على سواحل جزيرة (إيكاريا) وتيارات المياه الشديدة تجعل من وصول سفن وقوارب التجار إليها مهمة صعبة وشاقة للغاية، ومنه وجد سكانها أنفسهم منذ البداية تقريبا مجبرين على إعالة أنفسهم بأنفسهم وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

تقريبًا، لدى كل مواطن في جزيرة (إيكاريا) بستان خاص به يعتني به ويزرع فيه معظم ما يحتاجه من غذاء، من خضر على شاكلة البطاطا، إلى الحبوب الخضراء مثل الفاصولياء والبازلاء، وصولا إلى اللوز والجوز، وبعض المنتجات الطبيعية الأخرى.

ومنه تتكون الحمية الغذائية لسكان جزيرة (إيكاريا) من منتجات طبيعية عضوية مائة في المائة بالإضافة إلى النبيذ محلي الصنع وحليب الماعز والعسل الطبيعي والأسماك.

يعتبر الطعام في (إيكاريا) مليئا بالمواد المغذية بشكل مذهل، حيث تحتوي بعض الفواكه البرية التي يتناولونها من مضادات الأكسدة عشرة مرات ما تحتويه في بقية أنحاء العالم، وتماما مثل النبيذ الأحمر، كل شيء يتم صنعه محليا هناك بدون استخدام مبيدات الحشرات أو المواد الكيميائية الأخرى على التربة والنباتات، كما أن الجزيرة لا تتضمن سوى على كمية قليلة من السكر والغذاء المعالج.

جمع المشمش.
تتكون حمية سكان إيكاريا الغذائية من أطعمة طبيعية ينتجونها في حقولهم وبساتينهم. صورة: seasonsinvermont

في المناطق البعيدة من الجزيرة حيث يعيش السكان لفترات أطول من بقية مناطق الجزيرة، لم تتعرض الحمية الغذائية بأي طريقة من الطرائق لنمط الحياة الغربي أو تتأثر به، حيث يتناول السكان الكثير من الشاي المستسقى من الأعشاب الموسمية وحوالي كوبين من القهوة يوميًا، كما أن متوسط السعرات الحرارية التي يتناولونها على جزيرة (إيكاريا) منخفض بشكل كبير مقارنة بمناطق أخرى في العالم.

ففي المناطق المتقدمة من العالم على شاكلة أوروبا والولايات المتحدة مثلًا، تتوفر الأطعمة المعالجة بكثرة ويستهلكها الناس بشراهة، وذلك من الأطعمة السريعة وصولا إلى الحلويات الغنية بالسكر المعالج والسكر الاصطناعي.

كما أن متوسط السعرات الحرارية اليومية لدى الفرد الأمريكي أو الأوروبي لا يقل عن 3000 سعرة حرارية في اليوم الواحد، ناهيك عن كون السواد الأعظم من هذه السعرات مصدره طعام غير صحي البتة، كما أن نمط الحياة المتبع والسائد في هذه البلدان لا يتطلب عادة هذا الكم الهائل من السعرات الحرارية.

على سبيل المثال قد تعتبر 3000 سعرة حرارية يوميا أمرا عاديا بالنسبة لرياضي متمرس أو محترف، لكنها بالنسبة لشخص يقضي معظم يومه في الأعمال المكتبية ويحب قضاء بعض الوقت في المساء يشاهد شاشة التلفاز فهي قد تؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة.

لا عجب أن 75 في المائة من الذكور البالغين في الولايات المتحدة وحدها يعتبرون من ذوي الوزن الزائد أو يعانون من السمنة. في الجهة المقابلة يبقى سكان جزيرة (إيكاريا) في لياقة بدنية عالية ويحافظون على أجسامهم نحيفة وخالية من الأمراض خلال معظم حياتهم.

غير أن الحمية الغذائية لا تشكل العامل الأهم والوحيد الذي يرجع له الفضل في متوسط العمر المتوقع الطويل نسبيا لسكان الجزيرة، وفقًا للخبراء يعتبر نمط الحياة على الجزيرة عاملا مهما آخرًا في هذا الشأن، حيث يواضب السكان المحليون عادة على المشي على الأقدام والتنقل سيرا في مختلف أرجاء الجزيرة لقضاء حاجاتهم، أو لمجرد المتعة، حيث تفرض عليهم الطرقات المرتفعة والملتوية للجزيرة تمارين رياضية متوسطة الشدة تساعدهم خلال حياتهم على المحافظة على الصحة القلبية والوعائية في أفضل حال.

سكان جزيرة إيكاريا وهم يستمتعون بأوقاتهم.
سكان جزيرة إيكاريا وهم يستمتعون بأوقاتهم. صورة: visitikaria

إلى جانب التنقل سيرا على الأقدام في مختلف أرجاء الجزيرة، لدى سكان (إيكاريا) عادة أخذ قيلولة في المساء، وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن القيلولة المسائية قد تساعد على خفض خطر التعرض للأمراض القلبية الوعائية بحوالي 40 في المائة.

كما توجد لدى السكان المحليين عادة حميدة أخرى من الناحية الصحية، والتي تتمثل في تجاهل الوقت بشكل كامل، فعندما يقدمون لك دعوة بالقدوم إلى منازلهم لتناول وجبة الغداء على سبيل المثال، فإن الإيكاريين يتوقعون قدومك في زمن ما ابتداء من الساعة العاشرة صباحًا إلى منتصف الليل، حيث لا يشعر الإيكاريون بأن الوقت يحدّ من حريتهم على الإطلاق.

غالبا ما تجعل القيلولة المسائية التي يداومون عليها كذلك في جعل اليوم الواحد بقيمة يومين اثنين، حيث تراهم يقضون الصبيحة في مزاولة أعمالهم اليومية، ثم بعد القيلولة يلتقون بأصدقائهم وأحبائهم حيث يسهرون ويسمرون إلى غاية منتصف الليل، وتشمل هذه النشاطات على المسنّين أيضًا، وفي صبيحة اليوم الموالي تراهم يستيقظون بصورة طبيعية بدون الاستعانة بمنبه أو ما شابه.

حفلة مسائية في جزيرة إيكاريا.
حفلة مسائية في جزيرة إيكاريا. صورة: visitikaria

بينما قد تبدو لك جزيرة (إيكاريا) مثل ملاذ للاسترخاء والعيش الرغيد بدون أي مشاكل أو تعقيدات، فإن 40 في المائة تقريبا من سكانها يعانون من البطالة، غير أن الفقر الناجم عن بطالتهم لا تترتب عليه نفس التبعات السلبية التي تترتب على الفقر في البلدان الغربية أو المتقدمة، فعلى هذه الجزيرة الصخرية الصغيرة قد لا يتمتع الناس بوسائل الرفاهية التي يتمتع بها غيرهم في البلدان الأخرى لكنهم قد لا يحتاجونها على الإطلاق، حيث يقوم تقريبا كل شخص في هذه الجزيرة بتحقيق اكتفائه الذاتي من خلال الاعتناء ببستانه وأرضه، كما يتشارك الجيران غالبا منتوجات بعضهم البعض، وهو ما يخالف مرة أخرى المنظر العام والسائد في البلدان الغربية.

على خلاف الحياة على جزيرة (إيكاريا)، يتميز نمط حياتنا في مدننا الكبيرة بالسرعة، حيث نقود سياراتنا عند التنقل في مختلف الأرجاء مما يؤدي إلى انخفاض معدلات نشاطاتنا الجسدية، وهذا بدوره جعل حياتنا تتطلب التحفيز الدائم من أجل المحافظة على صحتنا النفسية.

نحن لسنا هنا نقول أن عيش الحياة السريعة هو أمر سيئ بحد ذاته، بل لنوضح أنه بالنسبة لسكان جزيرة (إيكاريا) فإن ما يبقي على صحة أجسامهم على خير ما يرام لسنوات طوال هو وفقا للكثيرين منهم نمط الحياة البطيئة نسبيًا، التي تتميز بالراحة النفسية والاسترخاء بعيدا عن الضغوطات النفسية، حيث تركز حياتهم وتتمحور حول العائلة والمجتمع الصغير والتعاون والمشاركة، بدلا من الانخراط والتفكير المستمر في طرق تحصيل المال والأنانية التي تتبع ذلك.

يطلق بعض الباحثين على مناطق مثل جزيرة (إيكاريا) اسم ”المنطقة الزرقاء“، ومن بين هذه المناطق نجد أجزاء من (أوكيناوا) في اليابان وكوستاريكا وجزيرة سردينيا وكاليفورنيا، وهي مناطق يدرس فيها العلماء السبب المحتمل الذي يجعل من سكانها يعمّرون لفترات طويلة.

لعل جزيرة (إيكاريا) هي أفضل هذه ”المناطق الزرقاء“ بسبب طبيعتها المعزولة بحكم كونها جزيرة تبعد عن أقرب بر رئيسي بـ50 كيلومترًا.

جزيرة إيكاريا.
جزيرة إيكاريا.

الأمر المثير حيال سكان جزيرة (إيكاريا) هو أنهم يعيشون أعمارًا طويلة بطريقة عفوية، حيث لا يبذلون مجهودا في سبيل إطالة أعمارهم، حيث أن هذه هي حياتهم ببساطة وهم لا يتكلفون فيها شيئًا: يعمل الناس في هذه الجزيرة خارج منازلهم في بساتينهم وحقولهم، ويتناولون غذاءً طبيعياً ومفيدًا، ويستريحون كما يشاؤون، ويقضون ما شاؤوا من الوقت مع الأصدقاء والأهل، كما يتنفسون هواء نقياً ويتنقلون في الأرجاء سيرا على الأقدام، بصفة عامة هم يعيشون حياة خالية من التوتر والقلق والضغوطات.

حتى أن سكان البلدان المتقدمة الذين يعيشون هذا النوع من نمط الحياة ويحافظون على حمية غذائية صحية لا يتجاوزون سن السبعين أو الثمانين على الأكثر، ربما كان هنالك سر مازلنا لم نكتشفه حيال سكان جزيرة (إيكاريا).

حفلة صغيرة في جزيرة إيكاريا.
حفلة صغيرة في جزيرة إيكاريا. صورة: euronews

من بين الأمور التي يقول سكان هذه الجزيرة أنها تساعدهم على العيش بهناء، هو أنهم يعزلون كل مسببات القلق والتوتر من حياتهم، وهو أمر يصعب القيام به عندما تعيش في مدينة كبيرة وتتبع نظام حياة معقد وسريع نوعًا ما.

مقالات إعلانية