in

الخروج من الشّرنقة —قراءة في رواية ”دميان“ لهرمان هسّه

هرمان هسّه

لم يكن غريباً على كاتب ”لعبة الكريات الزجاجية“ أن يمزج نضجي بدهشة الطّفولة، وذاك الانتفاض اللذيذ وأنا اتفحّص نفسي وكأنّي أراها للمّرة الاولى، وكأنّي الآن ولدت من شرنقتي، وشرّعت جناحي للمدى الرّحيب. بينما انتهيت من قراءة ”دميان“ كان الكون قد انتهى من نفض عباءته والتّثاؤب في روحي.

”دميان“ الرّواية المغتسلة بماء الوجودية.. الهاربة من مدرسة التحليل النفسي.. حيث أنه شاع بأن ”هسّه“ كتبها بعد التقائه بكارل يونغ للعلاج.

بينما كتب “هرمان هسّه” فيها عن ”سنكلير“ وتطوّر هوّيته من الطّفولة الى النّضج لم يتردّد في الإشارة إلى قلق الإنسان من الحرّية، وحاجته للمعرفة، وحاجة المعرفة الماسّة إليها.

“دميان” رواية تكسر تابوهات الثّنائيات المقّدسة: إله-شيطان، خير-شر، وتمجّد الكون الملوّن، وتؤكّد على أنّ الإنسان إنّما هو اجتماع المتضادات في وعي صريح، ولاوعي مستتر غير أنّه موجود، وإنّما من ينكره فهو يعيش حياته كنصف، وطوبى لمن اكتمل!

لله هو كلّ ما هو جميلٌ وطيّب وسامٍ ونبيلٌ ورقيق .. صحيح! ولكنّ العالم يحتوي على شيءٍ آخر بالإضافة إلى ذلك .. كل ما تبقى ينسب للشّيطان.. هذا الّنصف من الدنيا كلّه يُقمَع ويُخمَد ويُنكَر

ولطالما سيرافقكم ”هرمان هسّه“ في رحلة البحث عن ذواتكم من خلال علاقة “سنكلير ” بـ ”دميان“ الذي علّمه كيف يقدّس فردانيته ويهرب من التّبعية وروح القطيع، ولعلّ ”دميان“ الذي تحمل الرّواية اسمه يعدّ مجازاً ذكيّاً لغرائز الإنسان ونزعاته المخبّأة في لا وعيه، أو لفطرة الإنسان البدائيّة، وهو ابن “إيفا ” في إشارة لحوّاء الأنثى الأولى.

حياة كلّ إنسانٍ عبارةٌ عن طريقه نحو نفسه، لم يسبق لإنسان أن كان نفسه وبشكلٍ كاملٍ، لكنّ كلّ إنسانٍ يحاول ذلك

سواء بطريقةٍ خرقاء أو بطريقةٍ بارعة، وكلٌّ حسب ما يستطيع، الإنسان يحمل آثار ولادته، لزوجة ماضيه البدائي والقشرة، تظلّ معه حتى آخر أيّامه، هناك من لا يصير بشراً أبداً، يظل ضفدعاً أو سحليّة، وهناك من هو إنسانٌ في نصفه الأعلى، وحيوانٌ في نصفه الأسفل.

كلّ شخص ٍيمثّل مقامرةً من قبل الطبيعة لخلق إنسان، يستطيع كلٌّ منّا أن يفهم الآخر، لكن ما من أحدٍ يستطيع أن يشرح نفسه، إلا لنفسه!

ويقدّم ”هسّه“ في هذه الرّواية منطقاً فلسفيا سليماً، .الّا أنّه مبتكر، متمرّد يكسر التّعاريف الكلاسيكيّة للمصطلحات الوضعيّة التي تحوّلت في أذهاننا إلى بديهيّات، إذ يقصّ على لسان ”دميان“ عن لصّين حكت عنهما الأساطير التّوراتية، أحدهما تاب في نهاية حياته، والآخر أبى التّوبة، فيتساءل ما تعني التّوبة في نهاية العمر، ماذا تعني أكثر من مجرّد كلامٍ جميل!، هي مجرّد برهانٍ لفظيّ عن كوننا غير قادرين على اختيار من نحن، هي تجرّدٌ من أنفسنا وما كنّاه طيلة حياتنا، هي عدم اعترافٍ بما منحتنا إياه خطايانا.

لو كان عليك أن تختار بمن تثق من بين اللصّين، فبالتّأكيد لن تختار التّائب المتباكي، بل الآخر، رجل ذو أخلاق، إنّه لن يرفع صوتاً أبداً من أجل هذه الهداية التي هي بالنّسبة لرجلٍ في وضعه ليست سوى كلاماً جميلاً، إنّه يتبع مصيره إلى نهايته المحدّدة، ولا يجبن ويتنكّر للشّيطان، الذي ساعده وأغراه، له شخصيّته، والذين لهم شخصيّة يميلون إلى اتّخاذ المواقف البغيضة

”هرمان هسّه“ من خلال ”دميان“ اذاً ينتهج فكرةً فلسفيّة ترمي إلى أنّ أولئك القادرين على اتخاذ القرار بالخطيئة، هم فقط القادرون على تغيير العالم، وبذلك يكون قد لمس أحد الجوانب التي نحاول جاهدين أن نخفيها حتّى عن ذواتنا، وهي عدم نبذ الأفكار، حتّى تلك التي تبدو مخيفةً وآثمة، وكثيراً ما تطرق أبواب مخيّلتنا بعنف، قد نؤمن بها ولكنّنا لا نملك الجرأة على أن نخوضها، فالأفكار هي الوحيدة التي تحوّل الإنسان من حالة المخلوق العاجز إلى حالة الخالق العظيم.

ولعلّ أكثرنا ممّن اكتشف في ذاته الفضائل سيعلق في الشّباك اللامتناهي للتّساؤل الحتمي … أعلينا حقّاً أن نعيش العالم بكامل خطاياه، أن نجرّب كلّ شيءٍ موجود؟ فيُدخِلنا قسراً بسلاسة لذيذةٍ علمَ الأخلاق من أوسع أبوابه، ويضعنا فجأةً أمام أشد رغباتنا تطّرفاً، إلّا أنّ القوانين الكسولة تبقى له من أسوأ الرّذائل، طالما أنّ الحقيقة النّسبيّة التي نتحسّس كلّ يوم جزءاً ضئيلاً منها هي مسألة قناعة، وطالما أنّ الممنوع هو نتاج العقل المتجدّد الخلّاق.

إنّ من الممكن لشخصٍ ما ألّا يتجاوز في حياته كلّها قانوناً واحداً ومع ذلك يظلّ سافلاً والعكس صحيح..

من يصنع قوانينه الخاصّة إذاً …!

ما أن تفكّر، حتّى تبدأ بالتّحوّل، إنّه فرضٌ يقتضي هذه النّتيجة حتميّا، كلّنا يرقات في شرنقة، لنخرج … لنطير علينا أن نتحوّل، علينا أن نفكّر، علينا أن نتخلّص من الرّواسب المتكوّرة علينا، وأن نتقبّل بشاعة وظلمة المحيط داخل الشرنقة في مرحلة التّحوّل، ونحلم بمدى الجمال الذي ينتظرنا في الخارج، علينا أن نصبر على قسوة أفكارنا التي تغطّينا وكم تعذّبنا وندرك مدى جمال التّخلّص والتّحرّر منها، كم جميل أن تصبح فراشة!

ولكي نتحوّل يجب أن نؤمن بقدرتنا على التّحوّل، بقدرتنا على أن نكون خلّاقين، وليس هناك أكثر من التّوحّد مع الطبيعة برأي الكاتب طريقاً سهلاً لنصل إلى الجمال فينا، والإيمان بأنّه موجود.

مراقبة الجزئيات، الاستسلام للتّشكيلات اللامنطقية والغريبة بتشوّشاتها التي تقدمها الطّبيعة يولّد فينا شعوراً بالتّناغم الدّاخلي، سرعان ما نسقط ضحايا إغراء التّفكير فيها وكأنّها من طبيعتنا نحن، من خلقنا نحن، فنرى الحدود التي تفصلنا عن الطّبيعة ترتعش وتتلاشى، نصبح متآلفين مع هذه الحالة العقلية التي نعجز فيها عن حسم فيما إذا كانت الصّور في شبكيّة العين هي نتيجة انطباعاتٍ آتية من الخارج أو من الدّاخل، ليس هناك مكانٌ مثل هذا نستطيع فيه أن نكتشف بسهولة وبساطة كم نحن خلّاقون، وإلى أيّة حدّ تساهم أرواحنا في عمليّة الخلق المستمر، لأنّ الألوهية المتوحّدة ذاتها فعّالة فينا وفي الطّبيعة.

ويرى “هسّه” بأنّنا نحن جزء من الكون، وكل ما فيه موجودٌ فينا بشكلٍ أو بآخر، مثلما تحتوي أجسادنا على قائمة التّطوّر السّلالي، حياتنا رحلةٌ إلى ذواتنا، والرّحلة إلى ذواتنا ماهي إلا اكتشافنا لعناصر الكون الكامنة فينا، والوصول إلى الجوهر الإلهي المخبّأ، يرتعد شيءٌ ما في العمق، لكنّ الأمر بالنّسبة إليه ليس بعبثية انتظار غودو، فهناك فرق بين حمل العالم في داخلنا، وبين معرفة ذلك، فشرارة الإدراك هي عمليّة الخلق اللامتناهي.

كم هناك بينهم من نملاتٍ وسحليّاتٍ وديدانٍ وملائكة، كلٌّ منهم لديه إمكانية التّحوّل لإنسان، ولكن بالتّعرّف لهذه الإمكانيّات وتعليم نفسه كيف يعيها تصبح الإمكانيّات ملكه

شيئا فشيئا مع كلّ صفحة، تبدأ الفراشة بالخروج من الشّرنقة، من نور شمعة بعيدة تحترق فتضيء ألوانها، تبدأ بالإحساس بروعة المطر، بنشوة الإحساس بالبرد، بمتعة الخطيئة، بقيمة الحياة المتسلّلة إلى داخلها، وبقداسة التحليق عالياً …!

لتطير … آمن، بنفسك، بالإنسان فيك، آمن بكل جزئيّةٍ صغيرة، بكلّ حلم، بكلّ خيال، .بكلّ رغبة، فما أنت إلا كلّ لهذه الجزئيّات …!

لتطير … احتضن العالم بكليّته، لا تخفت الضّوء على نصفٍ وتغمره على النّصف الآخر.

ويضعُ ”هسّة“ بديلاً عن القالب الاعتيادي لمفهوم التّسامح مع الآخر كواجب أخلاقي، والّذي يتشاركُ فيه مع الكاتب الأفغاني خالد حسيني والكثير من المتصوّفين أمثال ابن عربي، حيث ينطلق إليه كنتيجة منطقيّة، من مرجعيّة التّسامح مع الذّات باعتبار ”الأنا“ و”الآخر” هما جزءٌ نسبيّ من كلٍّ مطلق عظيم.

تعامل مع ما يسمّى بالغوايات بلطفٍ ومحبّةٍ، وعندها ستكشف لك هي عن معانيها، فكلّها لها معانٍ، وإذا صادف أن عدت إلى التّفكير بشيءٍ مجنونٍ أو مرتبطٍ بالخطيئة، مثلاً إذا خطر لك أن تقتل أحدا أو ترتكب فعلا شائنا، لا تحتقر نفسك، تذكّر فقط، أنّ الشّخص الذي تريد أن تتخلّص منه هو ليس فلاناً بل مجرّد مظهرٍ خادعٍ، تكرهه لأنك تكره فيه شيئا هو جزء منك، وما ليس جزءا منا لا يزعجنا!

ويشارك ”هسّه“ الكثير من الكتّاب الميّالين للوجوديّة كإيريك فروم و فلهلم رايش مفهومهم للتّحزّب والجمعيّات إلى الأمم بذاتها، بأنّها هروب للقطيع بحثاً عن الدّفء و اصطناع محورٍ وهمي للإنسان خارج ذاته، حيث يكمن محوره الحقيقي , كما يرى ”هسّه“ بأنّ الحاجة للآخر العبثي لمجرّد أنّه آخر، هي حاجةٌ مبنيّةٌ على الذّعر و خوف الإنسان من نفسه، دلالة على الشّعور ببرد الفراغ نتيجة تقليصنا لذاتنا بحيث أصبحت أصغر من أن تملأنا، و الرّوابط النّاتجة عن هذه البنى المجتمعيّة قويّة في الظاهر، وهشّة سهلة الانهيار في الأعماق، ويمجّد الذّات الفرديّة للأفراد المنفصلين بالإشارة إلى أنّك لتطير، عليك فرد جناحيك، وسلوك طريق الأعالي، لا طريق الحشود على الأرض، فإنّها لا توصل حقّاً للسّماء.

لتطير، أحبّ، دع الحبّ يغمرك، دعه يغطّيك من برد العمر وصقيعه!

نادرة هي الفرص التي تسنح لك بالحوار مع ذاتك الحقيقيّة، بأن تكون الطّفل الذي كان، والعجوز الذي سيكون في آن معاً.

هرمان هسّه في ”دميان“ جعلني أعيش تجربةً فريدةً ثريّةً، فلسفيّةً بلا تعقيد، مبتكرةً بالرّغم من مضيّ قرابة مائة عامٍ على ”اكتشافها“.

مقالات إعلانية