in

لماذا كان يتم رسم الأطفال بوجوه قبيحة جداً في لوحات العصور الوسطى الفنية؟

امتدت العصور الوسطى إلى ما يقارب الألف عام، وشملت أوروبا وفي بعض الأحيان أجزاء من الشرق الأوسط وشماليّ أفريقيا، وقد تضمنت العديد من الحركات الفنيّة: منها الفن المسيحي المبكر (Early Christian art)، والفن في فترة الهجرة وانتشار المسيحيّة (Migration Period art)، والفن البيزنطي (Byzantine art)، والفن الانعزالي (Insular art)، وفن ما قبل الرومانسيّة (Pre-Romanesque art)، والفن الرومانسيكي (Romanesque art)، والفن القوطي (Gothic art) وغيرها الكثير. استُلهِمت هذه الفنون من موروث الإمبراطوريّة الرومانيّة ومن تقاليد الطابع التصويري للكنيسة المسيحيّة القديمة.

إنْ اطلعت على فنون تلك الحقبة الزمنية سيبدو لك وكأن جلّ ما يغلب عليها هو الطابع الديني، ولكن هذا غير صحيح، فبالرغم من ثراء الكنيسة في تلك الفترة وبذخها على الفنون، فقد وُجدَت العديد من اللوحات وكذا الفنانين الذين لم يعتمدوا على الطابع الديني، ولكنّ إهمال الناس للأعمال الفنيّة الخالية من المرجعية الدينية أدى إلى ضياع وتلف العديد منها على عكس الأعمال الدينية التي كانت تعامل بعناية شديدة، فقد تمّ الحفاظ على الكنائس ومقتنياتها واستمرّ الناس في إعادة ترميمها على عكس القصور والمنازل الكبيرة التي كانت تُترك ليأكل الدهر عليها ويشرب، وذلك أحد الأسباب الذي يفسّر عدم وصول أعمال فنية خارج إطار الدين إلينا.

رسمت هذه اللوحة في سنة 1333 من طرف (باولو فينيزيانو) بعنوان: "مادونا وطفلها".
رسمت هذه اللوحة في سنة 1333 من طرف (باولو فينيزيانو) بعنوان: «مادونا وطفلها».

الفن في العصر القوطي:

ترتبط تسميّة هذا العصر بالعمارة القوطية التي بدأت في فرنسا عام 1137 ميلادي، في حين لم تبدأ اللوحات القوطية بالظهور حتى بداية عام 1200، وفي تلك الفترة كان هناك اهتمام كبير بمريم العذراء، إذ أمست هي وطفلها أيقونةً في لوحات العصر القوطي وتسابق الفنانون في تصويرهما.

لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في تلك اللوحات هو مدى قبح مظهر الأطفال المصورين فيها، ويبقى السؤال: ”لم رُسمَ الأطفال بوجوه رجالٍ مسنين؟“ يصدح في الأذهان الفضولية.

لوحة «عذراء فيفيري» عام 1350 -
لوحة «عذراء فيفيري» عام 1350 – Print Collector/Getty Images
الأطفال في اللوحات هم تجسيد للمسيح
الأطفال في اللوحات هم تجسيد للمسيح.

يجيب عن هذا السؤال بروفيسور التاريخ في جامعة (كريتون) ومحرر المقتطف الأدبي «الطفل في التاريخ والفن أوائل العصر الحديث»، السيد (ماثيو أفيرت)، فيقول أن الأطفال في هذه اللوحات يبدون كرجال صغار (رجال ذوي مظهر غير لطيف!) وقد يدعو هذا للتساؤل: ”لم قد يرغب أحدهم برسم طفل بريء على هيئة رجل؟“ و”هل من الممكن أن رساميّ ذاك العصر لم يتقنوا رسم الأطفال؟“

الإجابة عن هذه التساؤلات ترتبط بثقافة الحقبة التاريخية التي رسمت فيها هذه اللوحات وهناك سببان رئيسان:

1. الأطفال في اللوحات هم تجسيد للمسيح:

إن هذه اللوحات كانت تُرسم بتكليف من الكنيسة ولذلك فغالبية الأطفال المرسومين هم تجسيد للمسيح وبعض الأطفال الإنجيليين، وقد ساد حينها مفهوم Homuncular والذي يعني حرفياً ”الرجل القزم“، وكان لهذا المصطلح تأثير كبير على نظرة الناس للمسيح، واعتقد الناس آنذاك أن المسيح ولد كرَجُلٍ بالغ مكتمل النمو.

يبدو هذا الطفل الذي رسمه (بامبا دا مودينا) وكأنه يعيش أزمة منتصف العمر
يبدو هذا الطفل الذي رسمه (بامبا دا مودينا) وكأنه يعيش أزمة منتصف العمر – صورة: DeAgostini/Getty Images

2. لم يهتمّ فنانو العصور الوسطى بالرسم الواقعي:

يقول (أفيرت): ”نتجت الغرابة التي تنبع من فنون العصور الوسطى عن عدم اهتمام الفنانين بالرسم الطبيعي والواقعي واتجاههم نحو الأساليب التعبيرية“، في المقابل جعل انتاهجهم لهذا الأسلوب معظم الأشخاص في لوحاتهم يبدون متشابهين.

غير أن الأمر لم يبق على هذه الحال، فقد تلا العصور الوسطى عصرُ النهضة وعاد الرسامون لتصوير الأطفال بخدودهم الممتلئة ومظهرهم الملائكي، ويعزى ذلك لازدهار الفنون وابتعادها عن الارتباط بالدين، والدعوة للمثالية وملاحظة الطبيعة التي بدورها غيرت الفن، وهذا بالإضافة لتحول نظرة المجتمع للأطفال من بالغين صغار إلى كائنات بريئة.

لوحة بريشة (رافائيل 1506) تصور لنا طفلا بمظهر بريء ملائكي
لوحة بريشة (رافائيل 1506) تصور لنا طفلا بمظهر بريء ملائكي – صورة: Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images

ما الذي تغير ليصبح تصوير الأطفال على أنهم تلك الكائنات الظريفة؟

1. ازدهار الفن غير المتعلق بالدين، وعدم رغبة الناس في أن يبدو أطفالهم مثل رجال بالغين ذوي منظر مخيف. يقول (أفيرت) أنه في العصور الوسطى: ”نرى جزءاً صغيراً جدا من فن الطبقة الوسطى أو عامة الشعب“. بمجرد حلول عصر النهضة، بدأ هذا الواقع يتغير بازدهار الطبقة الوسطى في (فلورنسا) في إيطاليا، وأصبح الناس قادرين على تحمل تكلفة اقتناء لوحات فنية شخصية لأبنائهم، وبتوسع فن رسم الوجوه والتصوير، أصبح الناس يرغبون في أن يبدو أبناؤهم مثل أطفال ظرفاء وأبرياء بدلا من أقزام بالغين قبيحي المنظر، وهذا ما أدى إلى تغير معايير الكثير من الفنون آنذاك، بما في ذلك طريقة رسم وتصوير عيسى المسيح في نهاية المطاف.

2. 
غير المذهب المثالي في عصر النهضة الفن بشكل جذري. يقول (أفيرت): ”أصبح هناك اهتمام جديد في ملاحظة الطبيعة ورسم الأمور مثلما تُرى في الواقع“، بدلا من الفن التعبيري ومواقفه الفنية في وقت سابق، وتضمن هذا التغيير تصوير الأطفال بصورة أكثر واقعية بجعلهم كائنات جميلة ونقل سوى الخصائص الواقعية فيهم.

3. أصبح يُنظر إلى الأطفال على أنهم كائنات بريئة. يحذر (أفيرت) من القراءة المفرطة في موضوع تغير دور الأطفال في عصر النهضة، وتؤكد على أن الأهالي في العصور الوسطى لم يكونوا يحبون أطفالهم بشكل أقل عن الأهالي في عصر النهضة، لكن خلال عصر النهضة كان تحول فكرة الأطفال والطفولة يجري على قدم وساق، حيث تحولت النظرة إليهم من بالغين صغيري الحجم إلى كائنات بريئة بشكل فريد.

يوضح (أفيرت): ”انتقلت إلينا لاحقا فكرة الأطفال الأبرياء هذه“، ويضيف: ”إذا كان الأطفال يولدون من غير خطيئة، فهم لا يعرفون شيئا“.

بتغير مواقف البالغين تجاه الأطفال، تغير تصويرهم لهم كذلك فذلك التصوير ما هو إلا إبراز وانعكاس لما يراه المجتمع في أطفاله سواء صوّرهم على أنهم كائنات جميلة أم قبيحة، وانعكاس لما يراه في الفن، وفي أهدافه.

تظهر هذه الأيقونة من سنة 1304 طفلا يبدو وكأنه لا يرغب في اللعب إطلاقا.
تظهر هذه الأيقونة من سنة 1304 طفلا يبدو وكأنه لا يرغب في اللعب إطلاقا – صورة: Mondadori Portfolio/Getty Images

لماذا مازلنا نرغب في أن يبدو أطفالنا بمظهر جميل؟

بجمعنا لكل هذه العوامل معا، تحول الأطفال من أقزام بالغين إلى تلك الشخصيات اللطيفة ذات الخدود الممتلئة والطرية التي نعرفها اليوم، وهو أمر سهل الفهم جدا على ملاحظين معاصرين على شاكلتنا، بما أننا مازلنا نحمل بعض المبادئ من عصر النهضة حول الأطفال، لهذا يبدو في نظرنا من الجيد أن تصوير الأطفال تغيّر، لأن وجه هذا الطفل في الصورة أدناه فقط أمه قادرة على حبه!

مقالات إعلانية