يقضي سائق الشاحنات الباكستاني النموذجي من الوقت مع شاحنته أكثر مما يقضيه مع زوجته، وهو الأمر الذي يفسر لماذا قد يرغب في أن تبدو شاحنته التي تزن عشرة أطنان وتتنقل على ستة عجلات مثل عروس بهية في ليلة زفافها.
تتميز هذه الشاحنات التي تعج بها الطرق الوطنية الباكستانية وكذا طرق البلدان المجاورة كأفغانستان بكونها منمقة ومزينة بطرق مبالغ فيها، فالشاحنة كلها من أعلاها إلى أسفلها عبارة عن مهرجان ألوان حقيقي، مزينة بألواح مرسومة بطريقة معقدة تتضمن فسيفساءات لمختلف أنواع الطيور، والورود، والأزهار، والمناظر الطبيعية، والقديسين، والممثلات. كلّ مرسومٌ وملونٌ بألوان فاقعة مشبعة من الخارج، بينما يتم تزيين الشاحنة من الداخل بواسطة أزهار بلاستيكية، وخرزات مكسوة، ومرايا متعددة.
يتم تزيين قمرة القيادة من الخارج بواسطة هيكل يحاكي مقدمة السفن يصنع من الخشب بطريقة خاصة ومميزة ويتموضع فوق قمرة القيادة وتزينه أعمال فنية زاهية، بينما تتدلى صفوف من الأجراس المعدنية من هيكل الشاحنة وتلتف حولها، وعندما تتحرك الشاحنة تهتز هذه الأجراس وتحتك ببعضها مصدرة جلجلة -رنينا- كأنه صوت طائر بدأ الزقزقة حديثا، وهو ما جعل هذه الشاحنات تكتسب لقبها الشهير Jingle Trucks أو ”شاحنات الجلجلة“ الذي أطلقه عليها الجنود الأمريكيون في أفغانستان.
ولا يقتصر الأمر على الشاحنات وحدها، حيث يتعداها ليشمل كلا من حافلات نقل المسافرين، والصهاريج، وعربات النقل، والـ(ركاشات) -عربات نقل هندية- وحتى عربات التسوق في المتاجر، فقد أصبح تزيين هذه العربات بكل هذه الألوان الزاهية والبهرجة عبارة عن فن شعبي يتنقل على العجلات، أو معرضا فنيا وطنيا بدون جدران في حركة مستمرة.
بدأ تقليد تزيين الشاحنات في زمن ما في عشرينات القرن الماضي مع إدخال شاحنات الـ(بيدفورد) ذات المسافة الطويلة لأول مرة لباكستان، والتي أصبحت أيقونة النقل والمواصلات فيها واستمرت كذلك لمدة نصف قرن كامل. في الأصل كان يتم طلاء كل شاحنة على حدى بشعار الشركة التي تعود لها ملكيتها، وذلك حتى يستطيع الأميون من الناس تمييزها ومعرفة انتمائها، وشيئا فشيئا أصبحت هذه الشعارات تكتسب وجها جماليا أخذ في التصاعد، وأخذ مالكوها يتنافسون فيما بينهم في هذا المجال بالذات.
بحلول الخمسينيات، بدأت اللوحات الجدارية والجصية تعوض هذه الشعارات تدريجيا، ولم يكن حتى حقبة الستينات حيث ازدهر اقتصاد البلاد وأصبحت أعمال تزيين الشاحنات أكثر تعقيدا، وعلى قدر التعقيد الذي بدت عليه فقد كانت تعكس الوضع المادي المريح الذي كان يتمتع به سائقها، معلنة بذلك عن نشأة طبقة اجتماعية جديدة في البلد.
يكلف تزيين الشاحنات على الطريقة الباكستانية سائقيها ثروة معتبرة بالنسبة لمدخولهم المتواضع، حيث تبلغ تكاليف عملية تزيين شاحنة ما قيمته مدخول عام كامل من أجر السائق أو أكثر، فقد تناول تقرير نشر في سنة 2005 الموضوع مبرزا أن العملية آنذاك كانت تكلف سائق الشاحنة 2500 دولار، وهو المبلغ الذي يساوي أرباح عامين كاملين من العمل بالنسبة لسائق الشاحنة العادي.
ينفق بعض هؤلاء السائقين مبالغ تصل إلى عشرة آلاف دولار من أجل التزيين المبالغ فيه، وما قد يزيدك استغرابا عزيزي القارئ هو أن الكثير من سائقي هذه الشاحنات هؤلاء يعودون إلى ورشات التعديل والتزيين مرة كل ثلاثة أو أربعة سنوات من أجل إعادة تعديلها وتزيينها بشكل كامل!
تقول (دوريا كازي) رئيسة قسم الدراسات البصرية في جامعة (كاراتشي): ”لا ينفق سائقوا الشاحنات هذا القدر من المال حتى على عائلاتهم“، وأضافت: ”أتذكر مرة قال لي فيها أحد هؤلاء السائقين كيف أنه يدين بحياته كلها لشاحنته ويضعها فيها، فإن لم يقم بتكريمها بعملية الطلاء والتزيين اللائقة، فإنه قد يشعر بالتقصير وعدم الامتنان تجاهها“.
أضف إلى ذلك أن شاحنة مزينة ومهيأة بشكل لائق تعطي الزبائن انطباعا بأنه يتم الاعتناء بها بشكل جيد ومنه يمكن الاعتماد عليها وعلى سائقها في توصيل البضاعة إلى وجهتها بأمان.
أصبحت علمية تعديل الشاحنات وطلائها وتزيينها مع مرور الوقت تجارة ضخمة قائمة بذاتها، ففي مدينة (كاراتشي) وحدها يعمل في هذا الميدان -غير المقنن بعدُ والمربح جدًا- حوالي خمسون ألف مواطن، كما أن حظائر الشاحنات المتوزعة في المدينة تعج، وهم بذلك صاروا يعيدون ويكررون نفس الأنماط القديمة والصور والأيقونات مرارا وتكرارا.
لكن بفضل الفنانين على شاكلة (حيدر علي) الذي زين شاحنة (فورد) على الطريقة الباكستانية في (باسادينا) بولاية (كاليفورنيا) الأمريكية، أصبح الكثيرون خارج باكستان يعلمون بأمر هذا الفن الشعبي الباكستاني، ومنه فإن احتمال ركوده أو حتى موته يبقى احتمالا بعيدا، على الأقل في الأزمنة القليلة القادمة.