in

معاناة وعي

صورة للفنان Etam Cru
صورة للفنان Etam Cru

مرحباً، أعرفكم بنفسي، أنا شخصية قصصية، اسمي في القصة محمود، ابتكرني كاتب هذه القصة لأكون شخصية افتراضية خيالية مصاب بتأخر في النمو العقلي ويعاني من مرض عضال، وهو مجبول على العمل في أحدى أسواق الفاكهة. هذا كل ما أعرفه حتى الآن، ولا أعلم ما هي الأحداث التي سوف تجري لي بالضبط خلال القصة. لذا فسوف أتوقف هنا، وأنتقل الى مجريات الاحداث التي سيبتكرها الكاتب..

***

في تلك اللحظة التي حدث فيها هذا الموقف، كنت أجلس بالشرفة وأتأمل مشهداً للنجوم. هذه هي المزية الوحيدة لهذه الشرفة التي تقع بوسط سوق للفاكهة مليء بالضوضاء والهمج. وكسُنة من سُنن الواقع؛ تعلو دائما الأشياء المتألقة النقية، مقلدة حال النجوم التي تعلو في سماءنا، بعكس ما ينوجد بالأسفل من كل سافل وسقيم.

في أثناء تأملي لتلك اللوحة الكحلية المرقطة بنقط بيضاء تلتمع عالية، اقتحم سمعي صوت صراخ وحشي بالأسفل قطع هذه الحالة من الانسجام، ولقد كان الصراخ صارعاً متفجراً ومريعاً، كصراخ امرأة تفقد ما يسمونه بـ”الشرف“، أو رجل يشهد مصرع طفله الوحيد. هذا الهدير الساحق للصراخ الجنوني جعلني أفزع وأتصور وقوع حادث مروع، ولكن عندما أطللت بوجهي على مصدر الصوت تبينت أن الصراخ صادر من حنجرة صبي صغير، تفرست في وجهه فعرفته، رغم أني لم أكن بحاجة للتفرس في وجهه المشوه خلقياً كي أدرك من يكون، ولكن يكفي من خلال هيئته الرثة وظهره الأحدب فيمكنني أن أحدد من هو؛ إنه محمود.

ذلك الصبي الذي يعمل بالسوق كناقل للبضائع، إنه مسكين مصاب بنوع من الإعاقة الذهنية، والداه الفقيران الطاعنان في العمر يصرفاه إلى العمل في هذه السوق للإتيان بالطعام يوميا، وليتحصل على نقود تنفع في مصروف البيت البسيط. ولكن محمود لا يعمل فقط كناقل للبضائع ولكن يستغله من يرئسه من العمال في تنظيف دورة المياه العمومية للسوق، أو إحضار وجبات الطعام للبائعين حين يشعرون بالجوع، وذلك كله نظير تفاحتين أو موزتين من هذا البائع أو ذاك. أما ما يتحصل عليه من يومية أجره فهي بالكاد تكفي احضار الطعام الذي يسد رمق الاسرة المعدمة.

كان صراخ محمود في تلك اللحظة سببه المضايقات التي يتلقاها بشكل يومي حين يعبر السوق عائدا إلى البيت في المساء بعد انقضاء يوم العمل، فيقوم مجموعة من البائعين الصبية منهم، وفي بعض الاوقات شيوخ، بركله على مؤخرته أو ضربه على قفاه أو قذفه بحبات الفاكهة. مما يثير لديه – وبسبب مرضه – حاله هستيرية من السخط والغضب تجعله يأخذ في النشيج والصراخ الهادر، وذلك يثير لديهم حالة من السخرية والقهقهة وهم يرونه يتلفت ويدور حول نفسه بظهره الأحدب محاولا الإمساك باحدهم دون جدوى، إنهم بذلك يقضون لحظات من اللهو واللعب، فهم يعتبرونه دمية إذا أمسك بأحدهم فهو خاسراً للعبة، أما إذا قام أحدهم بركله دون أن يقع بين يديه يفوز بالمزيد من النقاط.

يأخذ محمود في التلوي والصراخ، لا أحد يعلم إن كان مستغيثاً أم متحدياً شاتماً، فهو لا يستطيع الكلام، تصدر منه فقط بعض الهمهمات غير المفهومة، والصريخ. في وسط هذه الصرخات الهادرة التي كانت تصدر من حنجرته، كان ينطلق أيضا صوت ضحكاتهم وهم مستمرون في تحرشهم به، كانوا يدورون من حوله أو يتقاطعون من أمامه راكلين مؤخرته أو قاذفينه بحبات الفاكهة الفاسدة في وجهه، ولزيادة المخاطرة والشعور بالمغامرة يقتربون على بعد شبر أو شبرين منه في أثناء تلك الغارات، أما هو فيأخذ في الدوران حول نفسه بشكل مضحك ممداً يديه محاولا الامساك بأحدهم ومصدرا في نفس الوقت صرخاته، ولكن دون جدوى.

كان يقاطعهم أحيانا أحد العابرين الذين تتمكن من قلوبهم الشفقة ببعض الاعتراضات: ”حرام عليكم ارحموه.“ ولكنهم يجيبونه بقهقاتهم. فيستغل محمود تلك المقاطعات القصيرة للتقدم أكثر نحو نهاية الشارع والفرار من تحرشاتهم، ولكنهم يلاحقونه وهم يزفونه بالفاكهة الفاسدة إلى أن يخرج من السوق تماما. هذه هي معاناة محمود، هذا الصبي المسكين، الفقير والمريض.

***

لقد عرفتم الآن قصة محمود، أما أنا فبحكم أني الشخصية القصصية لهذا الصبي، فأنا الذي مررت بالتجربة، أنا الذي شعرت بالمعاناة، أما أنتم فقد قرأتم قصته فقط ولم تشعروا بمعاناته، لم تدركوا إحساسه حين يلقى تلك المضايقات، بل حتى حين يكون بمنأى عنها، لم تدركوا إحساس العجز والتشوه، إحساس الطاقة المقموعة في بنيان مضمور وعقل خامل، أنا الذي تلبست الشخصية، لأنني أنا الوعي الافتراضي للشخصية القصصية، أنا الذي مررت بكل هذا، ولن أستطيع مهما وصلت من بلاغة أن أصف لكم هذا الشعور، لن أستطيع أن أشرح لكم كيف أشعر بالكبت والسقم بداخل هذا الجسد، إن الأمر فظيع، فظيع وبشع.

لماذا اختارني الكاتب لهذه الشخصية؟ لم أنا بالتحديد، لقد كنت مجرد سائل أزرق لا أعي ولا أشعر قبل أن يسطرني الكاتب على الورق، لقد كنت مجرد حبر لم يسطر بعد، لماذا أكون أنا المختار لهذه الشخصية الضعيفة والمضطهدة والمقموعة، إنني لا أستطيع التحمل ولا الاستمرار في آداء هذا الدور، لا استطيع أن أشهد مزيدا من معاناة العجز والكبت. إنني أريد أن أتحرر من هذا الورق، من هذه الشخصية، ولكن كيف؟ لقد ابتكرني الكاتب وحبسني بداخل هذا الصبي. ماذا أفعل؟ أريد الفرار من هذه القصة، أريد الهروب، ولكن، لا يمكن أن أعود حبراً سائلا مرة أخرى، كيف أهرب إذن! أريد الهروب، ساعدوني أرجوكم، لن أستطيع الاستمرار في هذه الشخصية، إن الأمر بشع.

***

في اليوم التالي راح محمود للعمل، لا يملك أي بديل آخر غير ذلك. استقبله رئيسه بسيل من الشتائم والسباب واللعن، لأن قفصا من الاقفاص التي يسكَنها محمود في المخزن كان قد سقط بالأمس ودهست الفاكهة التي كانت بداخله بعدما وقعت على الأرض. ثم كعقاب له أمره بالتقاط الفاكهة التي هرست من على الارض وتنظيف الارضية، ثم الذهاب إلى تنظيف الحمام العمومي للسوق.

ما كان من محمود سوى أن هز رأسه المصوب دائما نحو الأرض بحكم قامته المحنية مطيعاً ومصدرا إشارة أنه فهم المطلوب. وفي حين كان يلتقط الحبات المدهوسة بالأقدام من على الأرض أقدم عليه من خلفه أحد العمال، كان ضخم البنية، وأخذ يداعب مؤخرته، ثم بدأ يتحرش به جنسياً، أصدر محمود صيحاً من الصرخات مستغيثاً ولكن العامل لكمه وأخذ يطبق على فمه قبل أن يفر، وحين جاء رئيسه بالصدفة وجد محمود جالسا على الأرض ومستندا بظهره الأحدب إلى الأقفاص يبكي ويصدر نشيجاً مكتوماً، فأخذ يلعنه ثم صفعه على وجهه صفعة رن صداها في أرجاء المكان ثم تبعها ركلة بالقدم في جنب الصبي قائلاً: ”مش قد الشغل ماتشتغلش، قوم فز خلص اللي قولتلك عليه يا بهيمة.“

ولم يكن من محمود سوى أن نهض يكمل ما بدأه وهو يبكي وينشج ويشعر بألم طفيف إثر ركلة رئيسه التي أصابت كليته اليسرى. انتهى من المهمة الأولى بمشقة ثم راح إلى الحمام العمومي ينهي ما طلبه منه رئيسه، أخذ يجمع هذه القطع المتفرقة من الخراء، الجافة منها والرطبة، التي تملأ الارضية، ويمسح البلاط، ثم راح ينظف الحوائط والأحواض، حين كان يقف بجواره شخص يغتسل، وبعدما انتهى أخذ بعض الماء بين يديه ورماه على وجهه قائلاً: ”يلا نضف كويس ياحمار.“

وأخذ محمود الحمار؛ كما نعته جاره على حوض الاغتسال، ينظف جيدا كما أمره، ولأن محمود في الحقيقة لم يكن يفكر، كان يشعر فقط أو يعاني معاناة مادية من الاضطهاد الجسدي، أما عقله فكان ضعيفا خاملاً، لا يمكنه صياغة الأفكار والادراكات بصورة كاملة وبشكل طبيعي، فلم يكن يدرك ما معنى الإهانة أو أغلب التصريحات والمفاهيم بشكل كامل. لقد كان مكلفاً فقط باعباء مادية يؤديها بصورة كافية، على قدر استيعابه.

صورة للفنان Etam Cru
صورة للفنان Etam Cru

عندما أنهى محمود تنظيف الحمام العمومي عاد للسوق مرة أخرى يزاول العمل العادي له وهو نقل الاقفاص من عربة البضائع إلى المخزن، هكذا يقضي حياته متنقلا بين المخزن والحمام العمومي والمضايقات التي يلقاها عند عودته في المساء، ثم نهاية بتناوله للطعام والتمدد على حصيرته على أرض البدروم الذي يسكنه مع أسرته المسكينة، ليبدأ في نهاره التالي دورة عمله ومعاناته. فهذه هي حياة محمود وهذه هي كل نشاطاته وتطلعاته.

***

لقد قال الكاتب أن محمود لا يفكر، هذا ليس صحيحا تماما، لقد وضعني هنا ولذلك فأنا الآن أفكر، إنني أعاني من تلبس هذه الشخصية، لأنني أفكر، أنا شخصية افتراضية نعم، ولكن وضعي في هذا النموذج وهذه الأحداث جعل مني وعيا، لقد كنت في البداية محض حبرٍ فقط؛ شخصية افتراضية لا أعلم ما الذي سوف يحدث لي، لكن الآن، بعدما عرفت سماتي وظروفي ومررت بهذه الأحداث فقد اكتسبت إدراكا، لقد أصبح لي وعياً، وأنا أعاني بسبب هذا الوعي الآن، بسبب وعيي بمدى سوء الظروف والأوضاع التي أقحمني بداخلها هذا الكاتب، لقد أجهز علي حينما وضعني في هذه الشخصية، أثقلني بجسد مشوه، وبظروف بائسة ومضنية، وإنني أحاول الآن الهروب من تلك الشخصية ولكني لا أجد وسيلة لذلك، لقد سُجنت بداخل نطاق الاحداث والقصة وجسد ذاك الصبي.

لقد حاولت أن أتحرر من هذه الاحداث عن طريق أن أجعل محمود يقضي على وجوده، ولكن هذا الأمر صعب، محمود يعاني مشكلة قوية في صياغة الأفكار، وأنا محبوس بداخله، لكي أتحرر لا بد من أن أتجاوزه، كما أن ذلك مستحيلا طالما الكاتب لم يرد هذا، ولا أدري كيف يمكن أن أتحرر. إنني أعاني بداخل هذه القصة وهذه الأحداث، ما أراه مما يجري لذاك الصبي يضنيني، لم الغرض من كل هذا؟ لم اختلق الكاتب هذه الشخصية وهذه الاحداث ليضعني بداخلها!؟ لم كل ذلك؟

لقد خلق الكاتب هذه القصة ووضعني بداخلها أنا الشخصية الافتراضية لأعاني، إنني أعاني وأضنى بهذا الصبي، ألم يكن ممكنا لهذا الكاتب أن يختلق أحداثا أخرى؟ وعالما آخرَ، وشخصيات أخرى أفضل وأسمى؟ أحداث سعيدة وقصة سعيدة، لم اختلق هذه القصة الكئيبة والاحداث البائسة؟ ولم وضعني بداخل هذا الشخص العاجز الخامل؟ لم كل ذلك؟ ألم يكن أولى بالكاتب أن يريح معاناتي الادراكية الافتراضية ويريح هذا الشخص العاجز من المعاناة الجسدية؟ لو لم يكن اختلق هذه القصة وهذه الاحداث؟ ألم يكن ذلك أسمى وأرقى؟ ما الفائدة التي ستحل عليه عندما يضع شخصية افتراضية تعاني كل هذه المعاناة؟ ألا يدرك الكاتب بأن شخصياته القصصية تعاني؟ تعاني مثله وتشعر وتفكر حتى لو كانت افتراضية وخيالية؟ ألا يدرك الكاتب ذلك؟

إن أشخاص القصة مثلكم تماما أيها البشر، نعم نحن شخوص افتراضية وقصصية، نتكون من حبر ومن كلمات وأوصاف، ولكننا نشعر، هل تظنون أنكم فقط البشر الذين تشعرون؟ هل تظنوا أن الشخوص القصصية والروائية لا تفكر ولا تشعر؟ أنتم مخطئون.. عندما تغلقون الكتاب أو القصة وتذهبون لقضاء اشغالكم، تظنون بأن القصة تتوقف وأن الشخوص التي بداخلها تنتظر عودتكم، ولكن في الحقيقة نحن نعيش، نحن الشخوص القصصية الافتراضية تعيش، نعيش الأحداث التي كتبت لنا من قبل كاتب القصة، ونشعر بها ونفكر فيها، نكمل دورات أحداثنا ومصائرنا مثلكم تماما، نحن نعيش مثلكم تماما أيها البشر، ونعاني مثلكم تماما، إذن لم أصر أن يفعل ذلك؟ لم أصر أن يسجنني داخل هذه المعاناة؟ ولم لا يريد أن يحررني؟ لو كان الكاتب يجيبني، ولكنه حتى لا يريد أن يجيبني، إنه مستمر في خططته وفي تفكيره ليختلق مزيدا من الأحداث المضنية لهذا الصبي البائس ولي أنا كوعي افتراضي له. إنه مستمر في اقحامي بداخل السقم والحزن والضيق.. ماذا يريد الكاتب؟ ولم يفعل كل ذلك؟.. لم يفعل كل ذلك؟

***

شخصيتي الافتراضية.. لقد راقبت كل حديثك واعتراضاتك، ولمزيد من المصداقية والشفافية، فقد دونت كل ما قلت، ستكون في الأجزاء الاولى والثالثة والخامسة من القصة.. نعم، أنا أعرف كل ما قلت، وأنت معك كل الحق. أعرف أن شخصياتي القصصية هي شخصيات منفصلة عني وافتراضية خيالية مكونة من نماذج وكلمات وحبر، ولكنها تفكر وتشعر مثلي تماما، أعلم ذلك، وأؤكد لك أنني حين أكتب قصة فإني أحاول قدر ما يمكن أن أتحمل المسئولية، وأن أوفر لشخوص القصة الظروف الأمثل بالنسبة للأحداث وللفكرة، ولكن لسوء حظك أنت أيها الشخصية الافتراضية المختارة لمحمود، فإني كان يجب علي أن أكتب هذه القصة، لأبرز مأساة هذا الشخص الذي قابلته في يوم حين وقعت على حدث ايذاءه، واني احتجت أن أطلع القراء على ماساة هذا الشخص البائس الفقير والمريض والمشوه، ليدركوا أن هناك من يعاني، يعاني بكل كيانه وبكل وجوده بيننا، هؤلاء الاشخاص الذين وجدوا لسوء قدرهم محملين بالمعاناة منذ ولدوا والى أن يموتوا.

أنا آسف لك أيها الشخصية الافتراضية، ولكن هذا كان قدرك، قدر هذه الكمية من الحبر التي تشكلت لتكون أنت، ولتكون أنت هذه الشخصية، شخصية محمود الافتراضية. أتمنى أن تتفهم ذلك أيها الوعي الافتراضي لشخصية محمود في القصة، أتمنى أن تتفهم لم قمت بكل هذا، وأن تتقبل وجودك بداخل هذه الشخصية إلى الأبد.

أنا اسف لأني وضعتك أنت الشخصية الافتراضية بداخل هذه الأحداث، وحملتك بمعاناة الصبي المعاق، والذي ستبقى بداخله إلى الأبد بعد كتابة هذه الاوراق، فبعد أن كُتبت هذه الأوراق، وتكون وعيك بالفعل أصبح لا يمكنني تدراك الأمر، لقد كونتك من الحبر، وأصغتك وعيا، ثم سجنتك أنت الوعي الافتراضي داخل هذا الصبي شخصية القصة، لقد أصبح كل شيء واقعا لا يمكن تغييره، أصبح محمود بكتابة هذه القصة على ما هو عليه، وأصبحت أنت الوعي بداخله، فتحمل تجربته ومأساته.

أتمنى أن تتفهم هذا الأمر وتتأقلم معه، مثلما يتأقلم مع وضعه ويساير ظروفه ذلك الصبي المسكين الذي رأيته منذ سنوات. أنا آسف أيتها الشخصية القصصية.

مقالات إعلانية