in

دخلك بتعرف (ماتا هاري)، المرأة النسوية التي لم يكن العالم مستعدا لها بعدٌ آنذاك

ماتا هاري

يعرف الكثيرون اسم (ماتا هاري) لكن قلة قلائل منهم من يعرف أي جزء من قصتها حقيقة وواقع وأي جزء محض خيال.

ما نعرفه بحق حولها هو كونها امرأة كثيرة الترحال وتجيد أكثر من سبعة لغات بطلاقة، وأنه خلال الحرب العالمية الأولى، أدى بها جمالها الفاتن ومغامراتها العاطفية إلى الانخراط في شبكة جوسسة معقدة لدرجة ورطتها في مشاكل جمة لم تتمكن حتى شهرتها الواسعة من إنقاذها منها.

بدايات حياتها الاستثنائية:

اسمها الأصلي (مارغيريتا زال)، ولدت في السابع من شهر أغسطس سنة 1876 في (ليوواردن) بهولندا، وحتى في سن مبكرة، كان من الواضح والجلي أن (مارغيريتا زال) ستكبر لتصبح شخصا استثنائيا، فمنذ سنوات طفولتها الأولى في شمال هولندا كانت ذات شخصية وملامح بارزة، فكانت جميلة ولامعة ومظهرها يوحي بقوة كبيرة تتقد في داخلها، كما كانت لديها موهبة خاصة في تعلم اللغات الأجنبية.

منذ نعومة أظافرها، تعلمت (زال) كيف تنال مرادها من الرجال عبر إرضائهم واستمالتهم، بدءا من والدها الشغوف (آدام زال)، الذي كانت ابنته المفضلة والمدللة، وكان غالبا ما يغدق عليها بالهدايا الباهضة والثمينة.

كان والدها رجل أعمال ثري عودها هي وأشقاؤها على حياة الترف والبذخ، لكنه سرعان ما أفلس عندما كان عمر (مارغيريتا) ثلاثة عشر سنة فقط.

هجر والد (مارغيريتا) العائلة وهرب بعيدا مع امرأة أخرى، وتوفيت بعد ذلك والدتها (أنتجي زال) بسنوات قليلة فقط عندما بلغت (مارغيريتا) سن المراهقة.

بعد وفاة والدتها، أُرسلت (مارغيريتا) المراهقة إلى مدرسة لتتعلم مهنة التعليم حتى تصبح مدرّسة في المستقبل، ومن هناك انتقلت إلى (ذا هاغ) بعد أن طردت من المدرسة بسبب تورطها في فضيحة جنسية مع المشرف على المدرسة عندما لم تبلغ من العمر سوى 16 سنة، كانت (ذا هاغ) مدينة تعج بضباط الجيش الاستعماري الهولندي الذين عادوا من الخدمة في الهند الشرقية الهولندية، أو ما يعرف اليوم بأندونيسيا.

في سنة الثامنة عشر، ردت على أحد الإعلانات في عمود ”القلوب الحائرة“ على إحدى الجرائد، بداعي الملل ورغبة في خوض مغامرة جديدة: ورد في الإعلان أن النقيب (رودولف ماكلود) كان رجلا غنيا يبحث عن فتاة ”ذات شخصية جذابة“ بهدف الزواج وتأسيس عائلة، وبدت لـ(مارغيريتا) فكرة الزواج من رجل كهذا أفضل طريق لحياة أفضل من الحياة التعيسة التي كانت تحياها، كما كانت ترى فيه الرجل الذي سيعيد إليها سنوات البذخ والترف التي نشأت عليها.

كانت كذلك تعرف جيدا أن الضباط العسكريين في الهند الشرقية يعيشون في منازل وقصور فاخرة وواسعة، وكانوا يحظون بكثير من الخدم تحت تصرفهم، فقد قالت في حوار لاحق معها: ”أردت العيش مثل الفراشة“، وبعد التقائها بالنقيب (ماكلود) بستة أيام فقط أعلنا عن خطوبتهما، ثم تزوجا في يوليو سنة 1895.

زواجها:

في سنة 1895 تزوجت (مارغيريتا) البالغة من العمر ثمانية عشر عاما فقط من النقيب (رودولف ماكلود) الذي كان يكبرها سنا بالضعف، وكان مهووسا بالجنس والعلاقات الكثيرة، وأنجبت معه مولودين اثنين، ذكرا وأنثى.

(ماتا هاري) في يوم زفافها
(ماتا هاري) في يوم زفافها في عام 1895 من النقيب (رودولف ماكلود) – صورة: Roger-Viollet/Aurimages

فلم تكن الحياة مثلما توقعته الشابة (مارغيريتا)، ذلك أن (ماكلود) لم يكن غنيا كما اعتقدته، كما كان غارقا في الديون، ناهيك عن علاقاته الجنسية الكثيرة خارج إطار الزوجية، لذلك بدأت تنجرف بعيدا عنه وعن الأخلاق التي كانت لتتصف بها امرأة وفية آنذاك، فجذبت انتباه الرجال هي الأخرى بواسطة جمالها وتصرفاتها اللعوبة، وهو الأمر الذي انتبه إليه زوجها وانزعج منه كثيرا.

كان النقيب (ماكلود) يعاقر الخمر بإفراط، كما كانت لديه عشيقة وهو الأمر الذي لم يعجب (مارغيريتا) كثيرا، لذا عمدت هي الأخرى إلى التعرف على عشيق خاص بها. وفي هذه النقطة، بدأت كذلك بدراسة الثقافة الأندونيسية، التي ستعود عليه بالفائدة في المستقبل.

(ماتا هاري) وزوجها (ماكلود)
(ماتا هاري) وزوجها (ماكلود) – صورة: Popperfoto

في سنة 1899، ترقّى (ماكلود) إلى رتبة رائد في قاعدة عسكرية أخرى من الهند الشرقية الهولندية، فترك زوجته وعائلته وقصد مقر عمله الجديد ليعثر على منزل هناك، وبينما كان هناك مرض ولداه كثيرا، ويرجح الكثيرون السبب وراء ذلك إلى داء الزهري الذي يكون قد انتقل إليهما عبر واحد من والديهما ”كثيري العلاقات الجنسية“.

وعندما عاد إلى عائلته، اتصل (ماكلود) بطبيب القاعدة العسكرية على الفور -الذي كان معتادا على علاج الرجال البالغين ولم تكن له خبرة في طب الأطفال-، فأعطى ذلك الطبيب جرعات زائدة لكلا الطفلين مما تسبب لديهما في قيء أسود اللون وزادت حدة مرضهما لدرجة استسلم فيها ابنهما البكر للموت.

علم كل من في القاعدة العسكرية سبب مرض الطفلين، وبسبب تلك الفضيحة الأخلاقية -لأن مرض الزهري مرض يتناقل جنسيا تسببه كثرة العلاقات الجنسية- تعرض (ماكلود) لعقوبات من طرف إدارة الجيش وأنزلت رتبته ثم حٌوّل إلى مقر عمل بعيد.

لم يكلف هذان الزوجان نفسيهما عناء تصنع الحب والمودة، وفي سنة 1902 عادا إلى هولندا وانفصلا، تطلقا بعد ذلك بصفة رسمية بقليل، وعلى الرغم من أن (مارغيريتا) كانت قد حظيت بحق حضانة ابنتهما الوحيدة (جان) إلا أنها سيتم تربيتها لاحقا من طرف والدها، وواحد من الأسباب التي دفعتها للتخلي عنها والرحيل إلى باريس -إلى جانب رغبتها في تحقيق الثروة بكل تأكيد- هو أن والدها رفض دفع نفقة الحضانة.

بقيت (جان) مع أمها (مارغيريتا) معظم الوقت، لكن في أحد الأيام قدم (ماكلود) لاصطحابها معه في يوم الزيارة المخصص له مثل العادة، إلا أنه لم يقم بإرجاعها أبدا، ولأنها كانت في فقر مدقع وحالة مادية يرثى لها، لم تتمكن (مارغيريتا) من رفع دعوى حضانة على الأب، وفي سنة 1903 انتقلت إلى باريس دون ابنتها التي كانت أول مرة تفترق فيها عنها.

إحدى الرسائل التي كتبتها (ماتا هاري) لابنتها (جان) عندما كانت في باريس
إحدى الرسائل التي كتبتها (ماتا هاري) لابنتها (جان) عندما كانت في باريس

إلا أنها كانت قد كتبت بعد رحيلها إلى باريس إلى أحد أقربائها: ”لقد سئمت من محاربة الحياة، أرغب في أمر واحد من اثنين: فإما أن تعيش معي ابنتي (نوني) [كما كانت تلقبها]، وأعد أن أتصرف كأم مثالية، وإما سأستمتع بالحياة الجميلة التي وجدتها هنا في باريس، على الرغم من أنني أعلم بأن نهايتها ستكون مأساوية“.

سنوات باريس:

في بادئ الأمر، امتهنت (مارغيريتا زال) حرفة الدعارة لسد رمقها، غير أنها سرعان ما عثرت على وظيفة كامرأة تمتطي حصانا في سيرك محلي، ولدعم نفسها ومدخولها عملت كذلك كعارضة أزياء لدى أحد الفنانين والمصممين، وفي سنة 1905 حققت نجاحا معتبرا كراقصة.

(ماتا هاري) أثناء سنواتها الأولى في العاصمة الفرنسية باريس
(ماتا هاري) أثناء سنواتها الأولى في العاصمة الفرنسية باريس

كراقصة، اعتلت (زال) خشبة المسرح تحت اسم مستعار وهو (ماتا هاري) -مدعية أنها كانت أميرة أندونيسية هندوسية- وعملت على إتقان رقصها الفاتن والمغري الذي تطلق عليه اسم (الرقصات المقدسة) وهو الأسلوب الذي يٌعرف اليوم باسم ”رقص التعري“.

بعد بدايتها في (متحف غيمي)، وهو متحف مخصص للفنون الآسيوية، أصبح اسم (ماتا هاري) مشهورا في كل القارة الأوروبية، فعشق كل من سمع خبرها أو رآها من الرجال من جميع أنحاء العالم، إلا أنها كانت لا تنجذب إلا للضباط العسكريين، وهو الذوق الذي سيودي بها في نهاية المطاف.

كان زيها الذي تعتلي به خشبة المسرح أثناء تأديتها لعروض الرقص خاصتها يقتصر على أثواب شفافة وفاضحة، وحمالة صدر مرصعة بالمجوهرات، وتاجا تضعه فوق رأسها، باختصار كان زيها جريئا لأبعد الحدود.

(ماتا هاري) مرتدية حمالة صدر مزينة بالمجوهرات
(ماتا هاري) مرتدية حمالة صدر مزينة بالمجوهرات

تحت أي ظروف أخرى، كانت (ماتا هاري) لتتعرض للاعتقال بتهمة الإخلال بالآداب العامة، وهو الأمر الذي كان صارما آنذاك ولا يتساهل معه، لكنها كانت تتصرف بحذر شديد، فكانت خلال كل عرض تؤديه تستقطع وقتا لتشرح بشكل مفصل أن تلك الرقصات التي تؤديها كانت رقصات مقدسة لدى المعبد الهندوسي، فكانت تشرح ذلك باللغات الألمانية والفرنسية والهولندية والإنجليزية قائلة: ”رقصي هو عبارة عن شعائر مقدسة […] يتعين على كل من يقوم بها أن يترجم المراحل الثلاثة التي ترتبط بالذوات الإلهية لكل من (براهما) و(فيشنو) و(شيفا)“، كما كانت تعطي كل عرض ورقصة اسما وقصة يعبر عنها، هذه القصص التي تنوعت من الشهوانية، والغيرة، إلى الانتقام، وهو الأمر الذي كان جديدا جدا على الناس آنذاك، فأحبوه وأعجبوا به كثيرا.

في عصر كان كل شخص نافذ وغني يرغب في عشيقة جميلة بين أحضانه، اشتهرت (ماتا هاري) بكونها أكثرهن روعة، وجمالا، ورغبة في باريس كلها، فكانت تٌشاهد غالبا برفقة دبلوماسيين رفيعي المستوى، ورجال أعمال، ونخبة الضباط العسكريين، وأثرياء باريس، الذين أغدقوا عليها بالفراء الباهض، والمجوهرات الثمينة، والأحصنة الأصيلة، والأثاث الراقي، وكل ما قد تتخيله من وسائل الرفاهية والمتعة، لا لشيء إلا للاستمتاع برفقتها فقط.

ولسنوات طويلة، كانت تؤدي العروض في كل عاصمة كبيرة في أوروبا.

(ماتا هاري) في أحد أزيائها التي كانت تؤدي بها عروضها الاستثنائية.
(ماتا هاري) في أحد أزيائها التي كانت تؤدي بها عروضها الاستثنائية.

مع تقدمها في السن بدأت مهنتها كراقصة تتلاشى وتضمحل تدريجيا، لكنها كانت لا تزال مرغوبة كرفيقة وعشيقة ولم تتوقف عن الاستمتاع برفقة الأغنياء وذوي النفوذ من الرجال.

اندلاع الحرب العالمية الأولى:

لم يؤثر اندلاع الحرب العالمية الأولى على نمط حياتها الفاخرة، إلا أنها أصبحت محط كره لدى الطبقات المتوسطة من الشعب، ذلك أنهم بينما كانوا يرسلون أبناءهم وأزواجهم وأشقاءهم ليلقوا حتفهم في الحرب، كانت هي تعيش أجمعل لحظات حياتها مع عشاقها.

عرض حي لـ(ماتا هاري)
عرض حي لـ(ماتا هاري)

بما أن هولندا كانت قد اتخذت موقفا محايدا خلال الحرب العالمية الأولى، لم تكن (ماتا هاري) تواجه أية مشكلة في التنقل وعبور الحدود الأوروبية بين دولة وأخرى، وواصلت بذلك سفرياتها المعتادة مما جلب إليها اهتمام عالم الجوسسة والجوسسة المضادة، وبينما كانت في مدينة (ذا هاغ) في هولندا، زارها (كارل كرومر) المستشار الألماني بالنيابة في (أمستردام) في خريف سنة 1915، وعرض عليها مبلغ 20 ألف فرنكا -ما قيمته اليوم 61 ألف دولار أمريكي- من أجل أن تتعاون مع السلطات الألمانية في الحرب العالمية الأولى.

خلال عودتها عن طريق البحر من هولندا إلى فرنسا في شهر ديسمبر من نفس السنة، استجوبت هي وجميع من كان على متن السفينة من مسافرين في (فولكستون)، أحد الموانئ البريطانية، من طرف أحد ضباط المخابرات البريطانية.

لم يتم العثور في ممتلكاتها على أي شيء قد يقود إلى الاشتباه فيها، إلا أن الضابط المسؤول عن التحقيق كان قد دون في ملاحظاته: ”لقد كانت المرأة التي تدعى (ماتا هاري) تتكلم كلا من الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والهولندية وربما الألمانية بطلاقة، وهي امرأة قوية وذات جمال أخاذ، ترتدي ثيابا مرموقة“.

فور عودتها إلى (باريس)، أقامت في فندق (ذو غراند هوتيل) The Grand Hotel، وهو الفندق الذي كان منيعا من كل تبعات الحرب.

لقد كانت (ماتا هاري) معتادة جدا على لفت انتباه الرجال لدرجة لم تلاحظ في الأيام القليلة الأولى من عودتها أنها كانت تتم ملاحقتها.

كان (جورج لادو) George Ladoux، رئيس وحدة الجوسسة المضادة المنشأة حديثا التي كانت تعرف باسم (دوزيام بيرو) Deuxieme Bureau ضمن وزارة الدفاع الفرنسية، قد أصدر أوامر لضباطه وعملائه بأن يتبعوها حيثما تذهب ويتعقبوها في كل مكان تقصده.

(جورج لادو) George Ladoux مدير مكتب الاستخبارات لدى وزارة الدفاع الفرنسية
(جورج لادو) George Ladoux مدير مكتب الاستخبارات لدى وزارة الدفاع الفرنسية – صورة: Roger-Viollet/Aurimages

من مطاعم ومتنزهات ومقاهي وصالونات ومحلات ونوادي ليلية، كان هؤلاء العملاء يتجسسون على بريدها ويتنصتون على هاتفها، كما وضعوا قائمة تحتوي على اسم كل شخص كانت تلتقي به، ورغم كل هذا لم يعثروا على أي دليل على كونها كانت تجمع أو تمرر أية معلومات قيّمة للألمانيين.

بحلول سنة 1916، كانت فرنسا تخسر الحرب ضد ألمانيا في كل معارك تخوضها تقريبا، ومن أكثر المعارك التي خسرت فيها فرنسا خسارة فادحة كانت معركتا (فيردون) و(سوم) الطاحنتان اللتان استمرتا لأشهر عديدة، وأدت الأوحال والأوضاع المزرية والأوبئة والسلاح المدخل حديثا المتمثل في غاز الفوسجين إلى مصرع مئات الآلاف من الجنود الفرنسيين.

في نهاية المطاف وصل الأمر بالجنود الفرنسيين إلى نقطة دب فيها اليأس إلى نفوسهم وفقدوا على إثره الرغبة في القتال نهائيا، وشعر بعدها (لادو) بأن اعتقال جاسوس كبير ومشهور قد يرفع من معنويات الجنود على جبهات القتال، ويعيد شحذ الهمم لمواصلة الحرب.

لم تكن (ماتا هاري) تعلم ما كانت الأقدار -أو الفرنسيون بالأحرى- تخبئ لها، وكانت منشغلة بأمور أخرى، كما كانت في خضم ذلك قد التقت بنقيب روسي شاب ووقعت في حبه، كان هذا النقيب شابا يصغرها سنا بكثير ويدعى (فلاديمير دو ماسلوف)، وكان يحارب في صفوف الفرنسيين.

(ماتا هاري) وعشيقها الروسي الشاب (فلاديمير دو ماسلوف)
(ماتا هاري) وعشيقها الروسي الشاب (فلاديمير دو ماسلوف)

قبل وقت طويل تعرض (ماسلوف) لهجوم بغاز الفوسجين الذي تسبب له في فقدان البصر على مستوى عين واحدة وترك العين الأخرى متضررة ضررا بليغا، وكان على إثر ذلك مهددا بالعمى التام.

غير أنه عندما عرض على (ماتا هاري) أن تتزوج منه طارت فرحا وقبلت بعرضه على الفور، وأملت أن تنال جوازا يرخص لها بالعبور داخل منطقة الحرب لتكون بقرب القاعدة العسكرية التي يتواجد بها حبيبها لتتمكن من الالتقاء به ورؤيته، فذهبت لتستشير أحد عشاقها السابقين وهو (جون آلور) الذي عمل لدى وزارة الحرب، وما كانت تجهله عنه هو أنه كان رئيس الجواسيس لدى الـ(دوزيام بيرو) الذي يترأسه (لادو).

أرسلها (آلور) على إثر ذلك إلى المبنى رقم 282 في شارع (سان جيرمان)، الذي كان يحتوي على المكتب العسكري للأجانب، والـ(دوزيام بيرو) للجوسسة والجوسسة المضادة، وهناك أخبرها العملاء أنها بإمكانها زيارة عشيقها بشرط أن تتجسس على الضباط الألمان لصالح الحكومة الفرنسية، وهو الأمر الذي وافقت عليه (ماتا هاري)، وكانت الجائزة التي وعدوها بها هي مبلغ مليون فرنك فرنسي، مبلغ أكثر من كافٍ لدعم نفقات عيشها هي وعشيقها بعد أن يتزوجا، كما كانت قد كتبت في إحدى يومياتها أنها لم تكن ترغب في أن تخونه مع رجال آخرين بسبب الفقر، ومنه كان هذا المال ضروريا جدا بالنسبة لهما حتى لا تضطر لذلك.

وجّه (لادو) تعليمات إلى (ماتا هاري) بأن تعود إلى مدينة (ذا هاغ) عبر إسبانيا وأن تنتظر هناك لمزيد من التعليمات، وكانت قد كتبت كذلك أنه على الرغم من العديد من اللقاءات التي جمعتها به لاحقا إلا أنه لم يطلب منها تقديم أية معلومات تحصلت عليها أبدا، كما لم يستهدف أي رجل محدد لإغوائه، ولم يوفر لها أية وسائل لتبعث من خلالها بأية معلومة تكتشفها، أو مبالغ مالية تساعدها في مهماتها.

وفي الأخير كتبت إليه برسالة أرسلتها عبر البريد العادي تخبره فيها بأنها تحتاج إلى مبلغ من المال من أجل اقتناء بعض الملابس الفاخرة إن كانت ستقوم بإغواء رجال مهمين.

أصدر (لادو) بعدها تعليمات لـ(ماتا هاري) بأن تذهب إلى إسبانيا، فاستقلت إحدى السفن التجارية الهولندية، التي رست في أحد الموانئ البريطانية حيث تم التحقيق مع المسافرين كالعادة، وفي هذه المرة ازدادت شكوك البريطانيين من هويتها ونواياها مما جعلهم يصطحبونها إلى لندن من أجل تحقيقات معمقة.

وتماما مثل المرة الأولى، لم يعثر المحققون على أي شيء قد يدينها أو يثبت شكوكهم التي تحوم حولها، لكنها ارتعبت كثيرا لدى تقريرهم احتجازها، حيث لم يكونوا متأكدين عما إذا كانت هي (مارغيريتا زال ماكلود) أم (كلارا بينيديكس) التي كانت جاسوسة ألمانية تشبهها كثيرا في مظهرها.

ولشدة يأسها ورغبتها الملحة في أن يطلق سراحها، اعترفت (ماتا هاري) للمحققين البريطانيين بأنها في السادس عشر من شهر نوفمبر أصبحت عميلة لدى السلطات الفرنسية وتم توظيفها من طرف (لادو)، وقامت بعدها السلطات البريطانية بالاتصال به للتحقق من ادعاءاتها، وكان رده: ”لا أعلم عن الأمر شيئا، أرسلوها إلى إسبانيا“، وكان ذلك خيانة منه لأحد عملائه.

تلخص الملفات البريطانية رده بالكلمات التالية: ”أنه كان قد شكك في أمرها منذ مدة وتظاهر بأنه قد وظفها لتعمل جاسوسة لصالح فرنسا، وكان ليشعر بسعادة كبيرة لو عرف بأن الشعور بالذنب تملكها لتعترف بحقيقتها“.

في العاصمة الإسبانية (مدريد)، قررت (ماتا هاري) اكتشاف أية أسرار عسكرية يمكنها اكتشافها هناك، فوقع في سحر جمالها وتصرفاتها دبلوماسي ألماني عينته السلطات الألمانية في مدريد يدعى (أرنولد فون كال)، ولم يتوانى في التبجح أمامها بعد وقت وجيز بالخطط العسكرية لبلاده وكيف ستسحق أعداءها في تلك الحرب، فباح لها في إحدى المرات بأن هناك مخططا لإنزال ضباط ألمانيين وأتراك بالإضافة إلى المؤونة من غواصة على سواحل المغرب.

سارعت (ماتا هاري) لنقل هذه المعلومة القيمة إلى (لادو) حتى تطالب بجائزتها التي وعدها بها، فكتبت برسالة إليه إلا أنها لم تتلقى أي رد منه أبدا.

(أرنولد فون كال)
(أرنولد فون كال) – صورة: Ullstein Bild Vintage/Getty Images

كانت كذلك قد أسست علاقة قوية مع (جوزيف دونفين) من دار المفوضية الفرنسية، الذي عشقها لدرجة أصبح مهووسا بها كثيرا، فوصل به الأمر أن كان يثور ويغضب لمجرد رؤيتها تجلس مع رجال آخرين أو تراقصهم، ومن أجل إطفاء نار الغيرة التي كانت تتقد في داخله، أفصحت له بسذاجة كاملة وشرح مفصل بأنها كانت تعمل لصالح (لادو)، كما أعادت سرد كل الأسرار التي اكتشفتها من الدبلوماسي الألماني.

طلب منها (دونفين) بعد ذلك أن تجلب له المزيد من المعلومات حول خطة الإنزال المغربي من (كال)، لكنها عندما فعلت ذلك، أثارت الأسئلة الكثيرة التي طرحتها عليه الشكوك في نفسه، وبما أن (دونفين) كان سيسافر إلى باريس لوقت وجيز، كتبت (ماتا هاري) رسائل طويلة تحتوي على الكثير من المعلومات التي اكتشفتها خلال مهماتها الجاسوسية وطلبت من (دونفين) أن يسلمها إلى (لادو) هناك في باريس.

بينما كانت (ماتا هاري) تغزو أذهان الدبلوماسيين الواحد تلو الآخر في (مدريد) في شهر ديسمبر من سنة 1916، أصدر (لادو) أوامر باعتراض كل رسائل الراديو بين (مدريد) و(برلين) وتفكيك شيفراتها باستعمال محطة استماع وتنصت نُصبت على قمة برج (إيفل)، ثم ادعى لاحقا أن الرسائل حددت بشكل واضح هوية (ماتا هاري) الحقيقية المتمثلة في كونها جاسوسة ألمانية.

في يناير سنة 1917، أرسل ضابط ألماني في السفارة الألمانية في العاصمة الإسبانية مدريد رسالة مشفرة إلى برلين يبرز فيها نشاطات جاسوس تحت اسم H-21، اعترض الفرنسيون هذه الرسالة وحددوا هوية العميل والجاسوس H-21 على أنه (ماتا هاري)، ويعتقد البعض أن المخابرات الألمانية كانت تعرف أن تلك الرسالة سيتم اعتراضها وتفكيك شيفرتها ومنه كانوا قد تعمدوا الإطاحة بـ(ماتا هاري).

عندما عادت هذه الراقصة الاستثنائية إلى باريس متوقعة تلقي جائزتها الموعودة مقابل المعلومات الاستخباراتية التي منحتها للسلطات الفرنسية، تفاجأت برفض (لادو) رؤيتها أو استقبالها، وبعد جهد جهيد وافق على الالتقاء بها إلا أنه نفى أن يكون شخص باسم (دونفين) قد أوصل إليه أية رسائل أو معلومات من جهتها، وعندما قصدت الـ(دوزيام بيرو) تم إعلامها بأن (دونفين) كان ”شخصا مجهولا“ بالنسبة إليهم، وفقط في وقت لاحق اكتشفت بأن أمرا مريبا كان يحدث بسبب تفكيك شيفرة رسالة راديو ما من السفارة الألمانية في إسبانيا.

تظهر الملفات الفرنسية التي أزيل عنها طابع السرية مؤخرا بأن الرسائل التي تحدد هوية (ماتا هاري) على أنها جاسوسة ألمانية قد تم جلبها إلى حضرة المدعي العام من طرف (لادو) في شهر أبريل من نفس السنة، وليس في شهر ديسمبر ولا يناير حيث كان (لادو) قد ادعى بأنها أُرسلت فيه، وتظهر الملفات كذلك بأن (لادو) كان الشخص الوحيد الذي اطلع على الرسائل الأصلية قبل أن يتم فك شيفرتها وترجمتها، كما ورد فيها بأن الرسائل الأصلية اختفت من الملفات بشكل غامض.

وفي وقت لاحق من تلك السنة، اعتٌقل (لادو) نفسه بتهم موجهة ضده بالجوسسة ضد بلاده فرنسا لصالح ألمانيا، فقط جاء اعتقاله هذا متأخرا قليلا على إنقاذ حياة (ماتا هاري) وتبرئة ذمتها.

بحلول نهاية شهر يناير سنة 1917، بدأت (ماتا هاري) تتحول تدريجيا إلى امرأة محمومة وشديدة التهيج، فلم يقم (لادو) بخيانتها وإدارة ظهره لها فحسب، بل أنه لم يدفع لها مقابل خدماتها تلك ولا فلسا واحدا، كما انقطعت عنها أخبار عشيقها (ماسلوف) الذي لم تسمع عنه شيئا منذ مدة طويلة وكانت تخشى أن يكون قد تعرض لإصابة مرة أخرى، أو أن يكون قد حدث له الأسوأ، وكان المال ينفذ منها وأخذت تنتقل تدريجيا إلى الإقامة في فنادق أرخص في العاصمة الفرنسية باريس.

اعتقال ومحاكمة (ماتا هاري):

في الثاني عشر من شهر فبراير سنة 1917، أُصدرت مذكرة اعتقال في حق (ماتا هاري) بداعي الاشتباه في كونها جاسوسة ألمانية، وفي اليوم الموالي لصدور المذكرة، اعتقلت وخضعت غرفتها في الفندق إلى تفتيش واسع حٌجز على إثره على كل ممتلكاتها.

كان المحقق الذي استجوبها يدعى (بيار بوشاردون)، وهو رئيس هيئة التحقيق لدى المجلس الحربي الثالث، وكان عديم الرحمة يتصف بالغلاظة تجاه كل مجرم مشتبه فيه، كما كان يتصف بالخشونة والكره بشكل خاص تجاه النساء ”المتحررات“ لأنه كان يعتبرهن ”عديمات الأخلاق“.

صورة جواز سفر (ماتا هاري) وصورتها يوم ألقي عليها القبض.
صورة جواز سفر (ماتا هاري) وصورتها يوم ألقي عليها القبض.

أمر (بوشاردون) بوضع (ماتا هاري) في الحبس الإنفرادي في أبشع سجون باريس وأسوئها سمعة وهو سجن (سان لازار)، الذي كانت تشارك فراشها فيه مع الجرذان ولم يسمح لها حتى بالاغتسال.

منعت كذلك من الوصول لممتلكاتها، وعلاجها الطبي، وملابسها النظيفة والمال من أجل اقتناء الطعام والطوابع البريدية لأجل الرسائل.

لم يسمح كذلك لمحاميها بزيارتها بشكل دوري، هذا المحامي الذي كان في يوم من الأيام أحد عشاقها، والذي لم تكن له خبرة كبيرة في مجال المحاكمات والقوانين العسكرية.

تقرر بعدها إجراء محاكمة (ماتا هاري) في محكمة عسكرية فرنسية سرية في شهر يوليو من نفس السنة، وتضمنت قائمة الاتهامات الطويلة التي وجهت إليها كلا من الجوسسة لصالح الألمانيين، وتحميلها مسؤولية مقتل حوالي 50 ألف جندي فرنسي.

أصبحت الساعات أياما، والأيام شهورا، وبدأت (ماتا هاري) تدرك بأنها في خطر دعوى قضائية خاسرة وخطيرة للغاية، وبعد ثلاثة أشهر دخلت في حالة من الكرب الحاد وتوسلت عبر مئات الرسائل الرحمة من سجانيها، كما توسلت بشكل هستيري لرؤية محاميها (إدوارد كليني)، وتوسلت بشكل خاص لرؤية عشيقها (ماسلوف)، الذي حجبت عنها رسائله التي كان يخبرها فيها بأن تأتي لزيارته في المشفى.

أثناء المحاكمة، اعترفت (ماتا هاري) بأنها كانت قد تلقت مبلغا ماليا قدمه إليها مستشار ألماني لكنها لم تقم بما طلب منها القيام به مقابل ذلك المال، كما أضافت أنها اعتبرت المال تعويضا عن ممتلكاتها الشخصية التي حجزت في الحدود الألمانية على يد الألمان في وقت سابق. لم يصدق القاضي الفرنسي ادعاءاتها وأنها كانت بريئة، كما وجه إليها تهمة امتلاكها لحبر ”غير مرئي“ قد يثبت إدانتها نهائيا، وبعد اكتشاف الحبر بين ممتلكاتها، أصرت (ماتا هاري) على أنه جزء من مستحضرات التجميل خاصتها التي كانت تستعين بها أثناء تأديتها لعروضها لا أكثر، لكن ذلك لم يساعدها في ربح قضيتها على الإطلاق، وفي اليوم الموالي للمحاكمة، أٌصدرت تعليمات بعدم السماح لهيئة الدفاع عنها باستجواب أي من الشهود الذين قد يبرؤون اسمها.

لم يسمح لها سوى بكتابة رسائل إلى المستشار الهولندي، التي ناشدته فيها بأن يبرئ ذمتها فكتبت: ”إن كل علاقاتي الدولية هي نتيجة عملي كراقصة لا غير، لأنني لم أقترف أي أعمال جوسسة في الواقع، كما أن عدم قدرتي على الدفاع عن نفسي بشكل لائق أمر مرعب ورهيب“.

وفي نهاية محاكمتها في شهر يوليو من سنة 1917، كان عليها أن تنتظر مدة ثلاثة أشهر كاملة حتى ينفذ فيها حكم الإعدام رميا بالرصاص، توضح الصورة أدناه أمرا بتنفيذ الحكم فيها:

صورة حكم الإعدام الأصلي في حق (ماتا هاري)
صورة حكم الإعدام الأصلي في حق (ماتا هاري) – صورة: Paul Fearn/Alamy Stock

بدأت المرحلة الأخيرة من معاناة (ماتا هاري) في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1917، وكانت رسائل التيليغرام والراديو التي قدمها (لادو) -التي تعتبر الآن رسميا مدبرة وملفقة للإطاحة بها- هي الأدلة الوحيدة الملموسة لإدانتها.

كان القضاة السبعة الذين أشرفوا على المحاكمة جميعهم قضاة عسكريين، ويذكر أن أحدهم بقي يردد كيف أن: ”(ماتا هاري) تسببت في مقتل حوالي 50 ألفا من أبنائنا، ناهيك عن أولئك الذين وجدوا أنفسهم على القوارب معرضين لهجمات طوربيدات العدو في البحر الأبيض المتوسط بسبب المعلومات المقدمة إليه من طرف (ماتا هاري) من دون شك“.

يذكر كذلك أنه لم يتم تقديم أي دليل لدى هيئة المحكمة لدعم هذه الادعاءات أو إثباتها، وكانت كل تهمة موجهة إليها واهية، لم تٌحدد فيها أية أسرار معينة تكون قد مررتها لعملاء أو ضباط العدو الألماني، أما عن نمط حياة (ماتا هاري) ”غير الأخلاقي“ -بمعايير ذلك الزمن- فقد توفرت الكثير من الأدلة لدعم هذه الإدعاءات النمطية بطبعها، وكان أحد رجال الشرطة المتخفين الذي كٌلّف بمهة ملاحقتها أثناء تنقلاتها في العاصمة باريس قد شهد على إنفاقها المسرف، بالإضافة إلى التقائها بعشاقها من ذوي السلطة والنفوذ والجنسيات المتعددة، هذا ولم يعثر بين ممتلكاتها في شقتها لدى تفتيشها على أي أدلة ملموسة قد تدعم بناء قضية الجوسسة ضدها.

شهد (لادو) شخصيا لدى هيئة المحكمة عن الرسائل المعترضة -الكاذبة والملفقة كما تبين فيما بعد-، مما أظهرها بمظهر الجاسوس الألماني على الرغم من عدم توفر أي دليل عن كونها مررت أية معلومات ذات قيمة للعدو.

لم تكن مرافعة هيئة الدفاع ممثلة في المحامي (كلوني) ذات أدنى تأثير يٌذكر، على الرغم من كونه أحضر عدة شهود عيان شهدوا على أن موكلته (ماتا هاري) كانت امرأة ”جذابة“ تحظى بشعبية كبيرة بين مجتمع الرجال ولم تسأل قط عن المسائل أو الشؤون العسكرية.

دافع عنها بشراسة وضراوة (هينري دو مارغيري)، وهو نائب وزير الشؤون الخارجية لدى الحكومة الفرنسية وأحد عشاقها السريين منذ سنة 1905، حيث قال: ”لم يبدر لي من هذه السيدة اللطيفة أي أمر قد يعكر صفو ثقتي الكبيرة بها، أو يؤدي بي إلى الاشتباه فيها في أي أمر يذكر“، كما كان قد اتهم حتى هيئة الادعاء على قبولها برفع قضية ”مغلوطة“ و”لا أساس لها من الصحة“.

وبالطبع، اعترف المدعي العام لاحقا أنه لم تكن هناك أية دلائل قوية تدعم تلك القضية من أساسها.

سجن النساء في (سان لازار) حيث أٌبقي على (ماتا هاري) قبل وبعد محاكمتها، أمضت آخر شهور من حياتها وعيد ميلادها الواحد والأربعين بين جدران الزنزانة رقم 12 هنا، في انتظار تنفيذ حكم الإعدام فيها.
سجن النساء في (سان لازار) حيث أٌبقي على (ماتا هاري) قبل وبعد محاكمتها، أمضت آخر شهور من حياتها وعيد ميلادها الواحد والأربعين بين جدران الزنزانة رقم 12 هنا، في انتظار تنفيذ حكم الإعدام فيها – صورة: Adoc-Photos

أٌدينت (ماتا هاري) في نهاية المطاف بجميع التهم الموجهة إليها، وحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص.

باءت كل محاولات تخفيض عقوبة الإعدام لمجرد السجن المؤبد بالفشل، كما لقيت طلباتها المتواصلة في الحصول على عفو رئاسي رفضا مطلقا، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيها في سرية تامة في صباح يوم الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1917.

تضمنت لائحة من حظر تنفيذ جكم الإعدام في (ماتا هاري) كلا من محاميها (كلوني)، والراهبات المسيحيات اللواتي اعتنين بها بين الفينة والأخرى خلال فترة سجنها، وطبيب السجن، وفرقة إطلاق نار مكونة من شباب حديثي السن في زيهم الرسمي المصنوع من قماش الكاكي وطرابيشهم الحمراء التي كانوا يضعونها فوق رؤوسهم، وكان يشرف عليهم نقيب شاب.

أدت (ماتا هاري) عرضا قويا للثقة والشهامة خلال آخر لحظات حياتها، لربما كان أفضل وأعظم عرض تؤديه على الإطلاق وفقا لمن حظروا المشهد، حيث كانت تسير بفخر وكرامة رافعة رأسها في السماء، ورفضت أن يتم ربطها إلى العمود، ووقفت منتصبة القامة بفخر لا يضاهى، حيث صفها النقيب المشرف متعجبا بالكلمات التالية: ”رباه إنها امرأة تعرف حتى كيف تموت“.

يقول البعض أنها بعثت بقبلة لفرقة إطلاق النار قبل أن يطلقوا النار عليها، بينما يصر البعض الآخر على أنها فتحت أزرار ثوبها مظهرة مفاتنها في وجوههم مما دفعهم للجمود للحظات قبل أن يطلقوا النار، قد تكون تلك لقطة وداع أخير للرجال في ”الزي الرسمي“ الذين كانت تحمل لهم عشقا وانجذابا خاصا.

مازال المؤرخون يتجادولن حول حقائق حياة (ماتا هاري) وما إذا كانت في الواقع عميلا مزدوجا أو جاسوسا أم أنها لم تكن كذلك على الإطلاق. ومع كل سرد جديد لقصتها يختلف عما سبقه من روايات، يبدو أنها لم تكن سوى ضحية سياسات جنسية: وبما أنها لم تكن امرأة ”عفيفة“ تضحي بحياتها وحريتها لزوجها الذي يستعبدها -كما كان شائعا بين النساء آنذاك-، فهي كانت بالمعايير السائدة آنذاك امرأة غير موثوقة.

كما قال المؤلف البرازيلي الشهير (باولو كويلو) الذي يؤلف حاليا كتابا خاصا حول قصة حياتها الأيقونية: ”كانت (ماتا هاري) واحدة من أوائل النسويات اللواتي عرفتهن البشرية، فقد تحدت توقعات الذكور آنذاك، واختارت بدل الحياة التقليدية المضطهدة التي كانت النساء تعيشها، حياة مستقلة حرة“.

تضمنت وثائق منشورة على موقع الاستخبارات المركزية الأمريكية حول قضيتها ما يلي:

أظهرت عدة وثائق نشرت من طرف وكالة الاستخبارات المركزية براءة (ماتا هاري) من التهم التي وجهتها إليها الحكومة الفرنسية، كما أظهرت أن الحكومة الفرنسية هي من خانت (ماتا هاري) وأدارت لها ظهرها في نوع من الجحود والنكران غير المسبوقين، ذلك أن فرنسا كانت البلد الوحيد الذي تجسست لصالحه ولمرة واحدة فقط في حياتها:

• كانت عملية الجوسسة الوحيدة التي قامت بها (ماتا هاري) في مدينة (مدريد) الإسبانية لصالح الحكومة الفرنسية، حيث أغوت ضابطا ألمانيا إداريا هناك وأمضت معه ثلاثة أمسيات تشاركه خلالها الفراش، لكن المعلومات الوحيدة التي استنبطتها منه كانت غير دقيقة، أو لم تكن ذات أهمية.

• كانت قد قبلت بالفعل قبض المال من المخابرات الألمانية، لكن كل ما كانت قد منحته مقابل ذلك كان عبارة عن تقارير صحفية وإشاعات لم يكن لها أساس من الصحة، التي تعمدت التلفظ بها لحمل الضابط الألماني على الكلام خلال الأيام التي كانت تلتقي به فيها في مدريد، وهو الأمر الذي حولته الحكومة الفرنسية إلى خيانة ووجهت لها على إثره ثمانية تهم بالجوسسة التي أعدمت بسببها.

• خلال محاكمتها السرية، رفضت الحكومة الفرنسية السماح لها باستدعاء شاهدين كانا قادرين على تبرئة ذمتها وإثبات برائتها، لماذا يا ترى؟ كانت فرنسا قد تلقت هزائم نكراء خلال تلك الحرب، وكان السبب الرئيس في خسارتها تلك هو جنرالاتها الذين أثبتوا نقص كفاءتهم الفادح، ومنه فقد احتاجت الدولة الفرنسية لذريعة أخرى أقل إذلالا تبرر بها خسارتها في الحرب، وتخرج منها خروجا أقل إذلالا، ما أفضل ذريعة عن جاسوس خارجي تلقي عليه باللوم؟

• كما جاءت إدانتها وتلفيق التهم إليها في بادئ الأمر من جهة الألمان الذين اعتبروا أنها خدعتهم بتلقي المال وعدم توفير المعلومات التي وعدت بها، فقاموا على إثرها بالتظاهر بأنهم شفروا رسالة ليبعثوا بها من سفارتهم في مدريد إلى برلين، وهي الرسالة التي اعترضتها السلطات الفرنسية وفككت شيفرتها معتبرة أن الجاسوس المشار إليه فيها ما هو إلا (ماتا هاري)، وعلى الرغم من علمهم بكون الألمان يحاولون تلفيق التهم إليها إلا أنهم هم الآخرون كانوا في حاجة لذريعة يبررون بها خسارتهم في الحرب.

• أوهم الفرنسيون (ماتا هاري) بأنها إن نجحت في استخلاص المعلومات لصالحهم من الجنرال الألماني قائد القوات الألمانية المسيطرة على بلجيكا سيدفعون لها بسخاء، وهي كانت في حاجة ماسة للمال من أجل حبيبها آنذاك الجندي الروسي ذو الواحد والعشرين عاما الذي كان في خطر الإصابة بالعمى نتيجة تعرضه لهجوم بغاز الفوسجين.

(ماتا هاري) أول امرأة نسوية يعرفها العالم، جاءت في زمن سابق لأوانها
(ماتا هاري) أول امرأة نسوية يعرفها العالم، جاءت في زمن سابق لأوانها

مقالات إعلانية