in

قصة برنامج غزو الفضاء اللبناني، وكيف كان لبنان أول دولة تطلق صاروخا في الشرق الأوسط، وهذا قبل أن تصل أمريكا إلى القمر

قبل أن تغزو الولايات المتحدة الأمريكية الفضاء وترسل بأول بعثة بشرية إلى القمر؛ كان للبنان برنامجه الفضائي الخاص، ففي زمن كانت فيه العروبة والنخوة العربية في ذروتها، وزمن احتضن فيه الرئيس جمال عبد الناصر الحلم العربي، كان الطلبة في جامعة (هايكازيان) اللبنانية الأرمينية في بيروت وأستاذهم في الرياضايات والفيزياء (مانوغ مانوغيان) قد أطلقوا أول صاروخ في العالم العربي. في تلك الحقبة، كان هناك شعور سائد وقوي أن أي حلم بإمكان تحقيقه، وذلك لأسباب لم تعد موجودة الآن.

قد يبدو الأمر صعب التصديق للكثيرين عند سماعهم به لأول مرة، لكنه حقيقة وواقع، فقد شارك لبنان في التسابق نحو الفضاء الذي ميز ستينات القرن الماضي والذي تنافس فيها المعسكران الأمريكي والسوفييتي.

يخبرنا عن هذه القصة الفيلم الوثائقي بعنوان «جمعية الصواريخ اللبنانية»، الذي يسعى لتخليد هذه الذكرى من خلال بذل المساعي الحثيثة لأجل الوصول إلى لحظة من لحظات الماضي المجيد تلك في زمننا الحاضر، وقد أُخبرت هذه القصة الملحمية في فيلم وثائقي من إخراج المخرجين اللبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج، الذي تُروى لنا فيه قصة حقيقية أبطالها مجموعة من الطلبة بقيادة أستاذهم ذو الخصال الفريدة (مانوغ مانوغيان)، وهو أستاذ رياضيات وفيزياء كان يدرّس في جامعة (هياكازيان) العربية الأرمينية الفتيّة آنذاك، ونجاحهم في إطلاق أول صاروخ في العالم العربي.

أطلق على برنامج الصواريخ الفضائية اللبنانية في بادئ الأمر «جمعية الصواريخ في جامعة هايكازيان» ولاحقا «جمعية الصواريخ اللبنانية»، التي انتهى بها المطاف إلى صناعة وإطلاق عشرة صواريخ كاملة بين سنتي 1960 و1964، مع كون أكثرها إثارة للاهتمام صاروخ (أرز 3) —تيمنا بشجرة الأرز في العلم اللبناني التي يمتاز بها لبنان— الذي كان وزنه يبلغ 1250 كيلوغراما وكان يبلغ من الطول 6.80 متراً، وصاروخ (أرز 4) الذي بلغ طوله 8 أمتار وكان يزن طنا واحدا والذي وصل إلى ارتفاع 200 كيلومتر، أي أخفض قليلا من مكان تواجد محطة الفضاء الدولية اليوم.

صورة جماعية التقطت قبل إطلاق صاروخ «أرز 3» سنة 1962.
صورة جماعية التقطت قبل إطلاق صاروخ «أرز 3» سنة 1962.

لم يتسلح هؤلاء الطلبة اللبنانيون المبدعون؛ الذين كان أغلبهم ينحدر من الأرمينيين الناجين من المجازر التي وقعت في بلادهم والذين اتخذوا من لبنان ملجأً وموطناً لهم –حتى الأستاذ (مانوغيان) نفسه كان قد ولد وترعرع في القدس–، بشيء عدا قناعة قوية بتحقيق كل ما يتمنون وتمويل لا يتعدى 750 ليرة لبنانية وهبها لهم النائب (إيميل بستاني) آنذاك، وقاموا بإنتاج المواد الضرورية والقطع الأساسية لبناء الصواريخ من العدم، وقاموا بإجراء التجارب والاختبارات على المواد الكيميائية وحاولوا مرارا وتكرارا دون كلل إلى أن نجحوا لأول مرة في مسعاهم، ولم يكن حتى وقت لاحق حيث تلقت رحلتهم في غزو الفضاء دعماً لوجيستيا من الجيش اللبناني –حيث كانت التجارب الأولية تجرى في الأرياف ومنه تم اعتبارها غير آمنة–، ومساعدات مالية من طرف الرئيس اللبناني شخصياً آنذاك فؤاد شهاب التي قُدرت بـ10 آلاف ليرة لبنانية في سنة 1961 و15 ألف ليرة لبنانية في سنة 1962.

الطلبة اللبنانيون المبدعون
الطلبة اللبنانيون المبدعون.

لكن للأسف الشديد، لم يعش هذا المشروع طويلا وتم إنهاؤه في مهده بعد فترة قصيرة من سلسلة نجاحاته المتوالية، ففي سنة 1964 وقع حادث أصيب على إثره طالبان اثنان وتم نقلهما إلى المستشفى على جناح السرعة، كما ارتفعت حدة التوتر الجهوي في المنطقة وتصعّدت المخاوف من أن يستغل لبنان مشروعه الفضائي الصاروخي لأغراض عسكرية في بناء رؤوس حربية، والتي أعربت عنها القوى العسكرية في الدول الجارة، ومنه، بعد أربعة سنوات فقط من التحدي والإبداع، أُجبر طلبة مشروع البرنامج الفضائي اللبناني على التخلي عن أحلامهم.

لكن هل فات الأوان على الأحلام؟

طوابع بريدية من تلك الحقبة.
طوابع بريدية من تلك الحقبة.

إليك جمال هذا الفيلم الوثائقي الذي تم إنتاجه ليظهر لنا تلك الحقبة التي بدأ فيها لبنان يغزو الفضاء: إنه يجعلك تؤمن، فقد قام فيه جوانا حاجي توما وخليل جريج بصناعة تحفة فنية حيث يتبع كل سردٍ قد يبدو غير معقول دلائل موثّقة لدعمه، ومنه كان كل ما ورد فيه حقيقة مدعومة بالدليل.

يقول (جوي أيوب) في موقع Hummus For Thought: ”كيف نسينا ذلك؟ ولماذا؟ تلعب الذاكرة دورا جوهريا أكثر من أي شيء آخر في الوعي الجماعي للشعب اللبناني. نحن نبدو وكأننا يائسون لتذكر أشياء معينة، ويائسون لنسيان أمور أخرى. قد يكون الأمر راجعا لكون برنامجنا الفضائي جيدا أكثر من اللازم في الفترة التي تلت الحرب الأهلية ليتقبله اليأس الذي كان سائدا. من السهل علينا تذكر الانتصارات والهزائم العسكرية لأنها تناسب القصة التي تجري حاليا، وإنه من الصعب علينا تذكر إنجازاتنا الفنية والعلمية لأنها لا تناسب أحداث القصة التي نعيشها اليوم“.

تابع أيوب قائلا: ”يمكنكم أن تعتبروني انحيازيا وذاتياً، لكنني بكل بساطة ممتن لما تمكن حاجي توما وخليل جريج من تحقيقه، ولو كان هذا الفيلم قد تم إنتاجه بشكل سيئ، لأحببته في كل الأحوال، بكل بساطة بسبب النوايا التي لأجلها تم إنتاجه“.

صورة صاروخ مرسومة
جوانا حاجي توما: ”لقد قامت لبنان بإطلاق أول صاروخ في منطقة الشرق الأوسط ثم نسيت أمره“

لا يقوم هذا العمل السينمائي بدغدغة مشكلة الذاكرة الحساسة جدا في لبنان فقط، بل يقوم بهذا الأمر بالاستعانة بمزيج من الصور المعدّة بشكل مثالي من حاضرنا اليوم، ومزاوجتها مع صور فوتوغرافية قديمة، وتصوير تاريخي.

يُتبع هذا الفيلم أيضا بفقرة وجيزة عنوانها «ماذا لو؟» التي تدور أحداثها في عالم موازٍ وحقيقة بديلة حيث تم السماح للعلم بالتطور والتقدم في لبنان، والذي كانت فيه الشخصيات أكثر سعادة منا نحن اليوم.

إليك ملخصا عن فيلم «جمعية الصواريخ اللبنانية»:

مقالات إعلانية