in

دخلك بتعرف (ماري كولفين)، المراسلة الصحفية التي ضحت بعينها، ثم بحياتها في سبيل نقل الشهادة

ضحت المراسلة الصحفية (ماري كولفين)، الحائزة على عدة جوائز نظير أعمالها الجبارة، أولا بعينها اليسرى ثم بحياتها.

ماري كولفين

كانت (ماري كولفين) صحفية من ألمع ما أنتج هذا الميدان، وكانت تسافر إلى ساحات المعارك وجبهات الاحتدام الأمامية بدون تردد، إنها شخصية من نوع فريد، لدى معرفتك بتفاصيل قصة حياتها ستعتبرها إحدى شخصيات القصص الخيالية المصورة وليس مجرد صحافية، والسبب ليس مجرد رقعة العين التي تضعها فحسب.

كانت (كولفين) تذهب طوعا حيث لا يتجرأ الجميع عادة على الذهاب، لقد غامرت بحياتها بالسفر إلى مدينة حمص في سوريا على متن دراجة نارية في خضم الحرب الأهلية، عندما قامت الحكومة السورية بالتهديد بصراحة بـ”القضاء على أي صحفي غربي يعثر عليه في حمص“، وقد أثبتت هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر أنها ستكون آخر تقرير صحفي تقدمه (ماري كولفين) في حياتها في يوم 20 فبراير سنة 2012.

حياة (ماري كولفين) الشخصية:

(ماري كولفين) عندما كانت شابة يافعة على أقصى اليسار، داخل مخيم اللاجئين برج البراجنة بالقرب من بيروت في لبنان سنة 1987، تشاهد بينما يكافح أحد زملائها من أجل إنقاذ حياة أحد اللاجئين.
(ماري كولفين) عندما كانت شابة يافعة على أقصى اليسار، داخل مخيم اللاجئين برج البراجنة بالقرب من بيروت في لبنان سنة 1987، تشاهد بينما يكافح أحد زملائها من أجل إنقاذ حياة أحد اللاجئين. صورة: Tom Stoddart Archive/Getty Images

ولدت (ماري كولفين) في الـ(كوينز) في نيويورك سنة 1956 وتخرجت من جامعة (ييل)، غير أنها لطالما اعتبرت الخارج موطناً لها، سواء كان ذلك يتعلق بأوروبا أو بأماكن كانت تجري داخلها صراعات عميقة وحروب دامية. بدأت مسيرتها المهنية كصحفية مع (يونايتد بريس أنترناشيونال) في باريس قبل أن تتنقل إلى إنجلترا كمراسلة صحفية عن الشؤون الخارجية لصحيفة الـ(صانداي تايمز) في سنة 1985.

لم يستغرقها الأمر طويلا حتى صنعت اسماً لنفسها في الميدان، ففي سنة 1986، أي في سنتها الثانية لدى الصحيفة الآنفة؛ أصبحت أول مراسلة تجري لقاء صحفياً مع العقيد معمر القذافي بعد أن قصفت الولايات المتحدة بيته وفقد على إثره ابنته الرضيعة، وبدا واضحا أن العقيد أعجب بها حيث طلب منها أن ترتدي حذاء أخضر اللون، كما أن طلب منها أيضا أن تمنحه بعضا من دمها.

في العام الموالي، وفي العراق هذه المرة، التقت بزوجها الأول (باتريك بيشوب)، وهو مراسل دبلوماسي يعمل لصالح صحيفة الـ(تايمز)، وكان زواجهما قصير المدة، حيث انفصلا بعد أن اكتشفت أن زوجها كان يخونها بينما كانت خارج البلاد في مهمة.

كانت (كولفين) دائما ما تضع قلبها على الخط، سواء تعلق الأمر بعلاقاتها العاطفية أم بمهنتها، فوقعت في الحب مجددا وتزوجت مرة أخرى في سنة 1996 من صحفي زميل بوليفي الأصل يدعى (خوان كارلوس غوموسيو)، وقيل عن علاقتهما أنها كانت ”هوجاء“، وفي نهاية المطاف أقدم (غوموسيو) على إنهاء حياته في سنة 2002.

سنواتها الأولى في الميدان:

عرف عن (كولفين) انتباهها الشديد للتفاصيل وقدرتها الكبيرة على تحويل ما هو غير إنساني إلى إنساني، فكانت تسارع إلى المناطق المتنازع عليها دون أن تعير تقريبا أدنى اهتمام لحياتها، وكانت في معظم الأحيان تقوم بأكثر من مجرد سرد التقارير الصحفية.

في سنة 1999، عندما كانت تيمور الشرقية تحارب من أجل الاستقلال من أندونيسيا، تموقعت (كولفين) داخل مركّب خاص بالأمم المتحدة إلى جانب حوالي 1500 لاجئ كان معظمهم من النساء والأطفال، الذين كانوا محاصرين من طرف ميليشيات أندونيسية كانت تهدد المبنى. كان الصحفيون وموظفو الأمم المتحدة قد غادروا المدينة وفروا بحياتهم مسبقا، ولم يبق هناك سوى (كولفين) وبعض شركائها الذين قرروا البقاء إلى جانبها من أجل حماية الأشخاص داخل ذلك المركّب، وجعل العالم كله يعرف ما كان يحدث بالضبط.

علقت محتجزة هناك لمدة أيام كاملة، لكن الأمر أتى بثماره في نهاية المطاف، حيث كانت كل تلك الضجة الإعلامية التي أنتجتها القصص التي كانت تنشرها قد سلطت ضغطا كبيرا على العالم من أجل التحرك والقيام بأمر ما حيال ما كان يحدث، ولأنها بقيت هناك ولم تغادر؛ تم تحرير اللاجئين وتم إجلاؤهم، وعاش بذلك 1500 شخص بفضلها ليروا يوما جديدا.

كانت (كولفين) دائما لا تحب نعتها بالبطلة، وبمجرد أن تعود إلى بر الأمان من الأوضاع الخطيرة التي تضع نفسها فيها كانت دائما تقول: ”ما أرغب فيه بشدة هو فودكا مارتيني وسيجارة“.

بالنسبة لـ(ماري كولفين)؛ كان سرد التقارير الصحفية من المناطق الخطيرة والصعبة واجبا لا يجب التفكير فيه، فلطالما كانت تقول: ”هنالك أشخاص هناك لا يملكون صوتاً“، وتضيف: ”أشعر بأنني ملزمة أخلاقيا تجاه هؤلاء، وأن تجاهلهم فعل جبان. لو كان للصحفيين الفرصة لإنقاذ حياتهم، فيجب عليهم القيام بذلك“.

الحرب الأهلية في سيريلانكا:

جعلت منها شجاعتها قوةً يعترف بها عالم الصحافة كله، حيث فازت بجائزة الشجاعة في الصحافة وثلاثة جوائز عن أفضل مراسلة للشؤون الخارجية من «الصحافة البريطانية»، لكن الأمر كلفها عينها في نفس الوقت.

في سنة 2001، ذهبت (كولفين) في مهمة لتغطية الحرب الأهلية التي كانت تنخر سيريلانكا، وكانت تنقل التقارير من داخل منطقة خاضعة لسيطرة الانفصاليين الذين يسمون ”نمور التاميل“، في سبيل أن تظهر للعالم أن المدنيين هناك كانوا يعيشون في مجاعة.

نمور التاميل في استعراض عسكري في (كيلينوشي) في سنة 2002
”نمور التاميل“ في استعراض عسكري في (كيلينوشي) في سنة 2002.

في السادس عشر من شهر أبريل من نفس السنة؛ دفعت ثمن شجاعتها منقطعة النظير تلك، فبينما كانت تتسلل عبر أحد حقول الكاجو الذي تديره نمور التاميل، توهج الحقل كله فجأة بالمشاعل وسرعان ما انتشرت دوريات الجيش السيريلانكي في المنطقة، فوجدت (كولفين) نفسها عالقة.

رفعت يديها في السماء معلنة عن استسلامها وراحت تردد: ”صحافية أمريكية“، لقد أملت أنهم عندما يدركون أنها صحفية وأنها لم تكن أحد الجنود سيطلقون سراحها، أو على الأقل لن يؤذوها. وسرعان ما انقطع أملها ذلك عندما دوّت قنبلة يدوية بالقرب منها اخترقت شظاياها رئتها وعينها اليسرى.

ثم ما حدث لاحقا أن قام أحد الجنود بتمزيق قميصها وراح يفتشها بحثاً عن أسلحة، ثم صرخ في وجهها: ”اعترفي أنك جئت إلى هنا لقضاء علينا“، ثم رمى بجسمها المتضرر في خلفية إحدى الشاحنات.

على الرغم من أنها نجت من كل ذلك؛ أصبحت (كولفين) مجبرة على ارتداء رقعة عين لبقية حياتها، لكن قصتها أجبرت الحكومة السيريلانكية على نزع قيودها التي فرضتها على الصحافة الأجنبية، وجعلت منها بطلة في عيون التاميليين، حيث صرحت لاحقا: ”اتصل بي الكثير من التاميليون وعرضوا علي التبرع لي بأعينهم“.

صورة التقطت سنة 2008 من طرف المصور والموسيقار (برايان أدامز) للمراسة الصحفية (ماري كولفين).
صورة التقطت سنة 2008 من طرف المصور والموسيقار (برايان أدامز) للمراسة الصحفية (ماري كولفين). صورة: Trunk Archive

ترك ذلك الحادث (كولفين) بندوب كانت أعمق من الجروح الجسدية، حيث أصيبت (كولفين) باضطراب ما بعد الصدمة، تقول: ”أعرف أمورا لا أرغب في معرفتها، مثل كيف يصبح الجسم صغير الحجم عندما يتم حرقه“، واستطردت في حوار لها مع أختها أثناء تعافيها: ”لم أعد قادرة على الشعور بشيء بعد ذلك“.

مهمة (ماري كولفين) الأخيرة:

الصراع في مدينة (دير الزور) في الثاني من نوفمبر سنة 2017.
الصراع في مدينة (دير الزور) في الثاني من نوفمبر سنة 2017. صورة: Simon Evans/Flickr

عندما تم وضع (كولفين) مجددا في الميدان، كثيرون من اتهموا الصحيفة بتعريض حياة مراسليها للخطر في سعيها نحو الحصول على أنباء تحصد لها الجوائز، قال أحد المسؤولين عن (كولفين): ”لو أن صحيفة (سانداي تايمز) لم تسمح لـ(ماري) بمواصلة العمل الذي لطالما أحبّته، لكانت قد حطمتها“.

عندما اندلعت أحداث الربيع العربي؛ رغبت (كولفين) في أن تكون هناك في قلب الحدث من أجل تغطية الثورات في الشرق الأوسط وجمع القصص التي لم يكن أحد آخر سواها يتجرأ على فعلها. على الرغم من أن العمل كان ليتسبب في خسارتها لحياتها في نهاية المطاف، فإن عدم قيامها به كان ليقتلها أيضاً.

قامت (كولفين) بتقديم آخر تقرير صحفي لها في الواحد والعشرين من شهر فبراير سنة 2012 من داخل مدينة حمص المحاصرة من طرف قوات النظام السوري، كان برفقتها مصورها (بول كونروي)، الذي كان جنديا سابقا ينشط في صفوف المدفعية الملكية البريطانية، ولقد كان يعلم جيدا من خلال الاستماع للأصوات المدوية في السماء أن حمص كانت تحت القصف بمعدل 45 قذيفة كل دقيقة.

تسللت (كولفين) و(كونروي) إلى داخل حمص عبر أنابيب الصرف الصحي التي كانت تمتد تحت المدينة، ومن هناك نقلت إلى شبكتي BBC وCNN الأهوال التي رأتها في تلك المدينة المنكوبة، لقد كان (كونروي) الشخص الوحيد الذي تلقى تدريبا يخوله من الدخول إلى مناطق الحروب والنزاعات، كما كان الشخص الأول الذي كان يفترض منه أن يخبر (كولفين) بأنه يجدر بهما العودة أدراجهما على الأرجح، فقال لها: ”كل عظمة في جسمي تخبرني بأن لا أقوم بهذا“، فردت عليه (كولفين): ”تلك مشكلتك الخاصة، أنا ذاهبة هناك مهما كلفني الأمر“، واستطردت قائلة: ”أنا هي المراسلة الصحفية، أنت المصور، يمكنك البقاء هنا إذا ما أردت ذلك“.

ولو أن (كونروي) كان يعتقد بأن لديه فرصة ولو ضئيلة في حملها على العدول عن قرارها لفعلها على حد تعبيره، لكن الأمر كان يتعلق بـ(ماري كولفين)، تلك المرأة التي ضحت بعينها من أجل نقل التقارير الصحفية عن الحرب الأهلية السيريلانكية، والصحفية التي كانت تشعر بأنها في بيتها في ساحات الحروب أكثر من شعورها بذلك في بيتها الفعلي على أريكتها. فكان رد (كونروي): ”أنت تعلمين أنني لن أتركك وحدك أبداً“، ثم مضى الإثنان قدماً.

أخبرت (كولفين) شبكة الـBBC: ”لقد شاهدت طفلا صغيرا يقضي اليوم“، واستطردت أثناء مهمتها: ”تعرض طفل يبلغ من العمر سنتين فقط لقذيفة“، ثم أرسلت بشريط فيديو يظهر كل الجرحى والمحتضرين في مستشفى مدينة حمص، والذي تضمن كذلك والد الطفل الصغير وهو يبكي بحرقة على فراق فلذة كبده.

بعد أن رأى محرر الصحيفة، وهو (شون ريان)، الفيديو وتمكن من مشاهدة كل ذلك الخراب والدمار الذي كان يحيط بها، أصبح مرعوبا وخشي على حياتها، وأرسل إليها أوامر مباشرة تقول: ”غادري المدينة غدا ليلا“، لكن ليلة ذلك الغد لم تكن قريبة بما فيه الكفاية.

أحد المباني في مدينة حمص يحترق بفعل تعرضه لقذائف الجيش السوري، بعد أيام فقط من مقتل (ماري كولفين) في حادثة مشابهة في 25 فبراير سنة 2012.
أحد المباني في مدينة حمص يحترق بفعل تعرضه لقذائف الجيش السوري، بعد أيام فقط من قضاء (ماري كولفين) في حادثة مشابهة في 25 فبراير سنة 2012. صورة: Wikimedia Commons

استفاق (بول كونروي) في صباح اليوم التالي من نومه على وقع دوي القذائف، كانت جدران مركز الإذاعة المؤقت الذي حولاه إلى قاعدة لهما تتزعزع، ثم سقطت قذيفة على مقربة كبيرة من المبنى هذه المرة فعلم (كونروي) حينها أنه كان يتم استهدافهما، فقد علم الجيش السوري أنه و(كولفين) كانا يختبئان في ذلك المبنى ومنه قرروا تصفيتهما.

تسارع الصحفيون داخل المبنى لجمع أغراضهم والرحيل ونطّت (كولفين) لانتعال حذائها بينما كان (كونروي) يقوم بجمع وتوظيب معداته، لكن قبل أن يتمكنا من الخروج، دخلت قذيفة عبر الباب إلى داخل القاعة.

كان (كونروي) بعيدا عن الجدار، فشعر بشظية وهي تخترق ساقه وتخرج من الجهة الأخرى، ثم سقط على الأرض، سقط بالقرب من (ماري كولفين) مباشرة التي كانت طريحة ومستلقية أرضا تحت كومة من الركام، قابعة هناك دون حراك. زحف (كونروي) على الرغم من ألمه الشديد ناحيتها ووضع رأسه فوق صدرها لكن لم يكن هناك أي نبض، كما لم تكن هناك أي حرارة نابعة عن نفسها، لقد كانت قد رحلت بالفعل.

ساعد ضباط جيش السوري الحر (كونروي) على الخروج من هناك ولمدة خمسة أيام بقي في رعايتهم، ثم قاموا بوضعه على دراجة نارية وساعدوه على الهروب من حمص، لكن (كولفين) بقيت هناك، تُركت جثتها للحكومة السورية، وتحتم على (كونروي) الذي كان لا يزال في فترة نقاهة أن يقرأ كل تلك الأكاذيب التي كان الإعلام والحكومة السورية يدليان بها على الصحف حول حقيقة الحادثة.

ادعت الحكومة السورية أن (كولفين) قد لاقت حتفها على يد متمردين قاموا بإعداد قنبلة تقليدية ملؤوها بالمسامير، صرح الرئيس السوري بشار الأسد عقب الحادثة: ”إننا في حرب وهي دخلت إلى سوريا بطريقة غير شرعية“، واستطرد: ”إنها مسؤولة عن كل ما حدث لها“.

حرب شخصية وإرث (كولفين):

(ماري كولفين) في أيام أفضل.
(ماري كولفين) في أيام أفضل. صورة: Dave M. Benett/Getty Images

أخبرت (ماري كولفين) صحيفة (ذا غارديان) في شهر نوفمبر 2010، أي قبل أزيد من عام على رحيلها: ”إن تغطية الحرب إعلاميا تعني الذهاب إلى أماكن تمزقها الفوضى، والدمار، ومحاولة نقل الشهادة“، واستطردت: ”يعني الأمر محاولة العثور على الحقيقة في عاصفة رملية من الحملات الدعائية المتضاربة“.

وكان ذلك بالضبط ما كانت تحاول فعله في مدينة حمص السورية، على الرغم من أن (كولفين) لاقت مصرعها فإنه كان هناك الكثيرون الذين حملوا على عاتقهم نقل قصتها، ففي سنة 2018 تم إصدار فيلمين اثنين حول حياتها: واحد وثائقي بعنوان: «تحت الخط»، والآخر فيلم سينمائي بعنوان: «حرب شخصية» من بطولة الممثة (روزموند بايك) التي أدت دور (كولفين).

قالت (كولفين) في نفس الحوار الذي أجرته معها (ذا غارديان) في سنة 2010: ”يجب على الصحفيين الذي يغطون الحروب والمعارك أن يحملوا على عاتقهم مسؤوليات كبيرة وأن يواجهوا خيارات صعبة“، وأضافت: ”أحيانا يدفعون ثمنا باهضا نظير ذلك“.

لقد كان ذلك ثمنها الذي دفعته في سبيل تسليط النور على أحد أقتم بقاع الأرض، وتماما مثلما كانت دائما تقوله: ”عملي يتضمن نقل الشهادة“.

مقالات إعلانية