in

لماذا يجب عليك أن تدرس المنطق؟

المنطق
صورة من تصميم Tara Jacoby

بدايةً، إن الخطأَ في العلوم تكونُ نتائجهُ بمقدارِ ما أُخطئ فيه، فمثلاً: الخطأ في النحو هو التلفظُ بما يُستهجنُ في لغةِ العرب، والخطأ في الجغرافيا هو إعطاء إحداثيات لمكان خاطئ، والخطأ في التاريخ هو رواية واقعة بغيرِ حقيقتها، وهكذا. ومن الطبيعي أن يختلف مقدار الخطأ، لكنه خطأٌ خاصٌّ مُعيَّن، في موضوعٍ مُعيَّن، بالنسبة لأمرٍ مُعيَّن.

أما الخطأ في الفكر، والاشتباه في الاستنتاج، هو أكبرُ الأخطاء وأسوأها، لأنه خطأٌ عامٌّ شاملٌ لكل العلوم. ونسبةُ الخطأ في الفكر إلى الخطأ في غيره من العلوم كالنحو، الجغرافيا، التاريخ وغيرها، ليست إلاّ كنسبة الخطأ في قاعدة كلية، إلى الخطأ في جزء من أجزاء تلك القاعدة.

فمن تعلم —خطأً أن (5*7 = 12) سيقعُ في عشرات الأخطاء الرياضية يومياً، بخلافِ من عرفَ أن (5*7 = 35)، لكنه أخطأ في مرة واحدة. وكذلك من تعلم في النحو أن (كل فاعل منصوب) لا بد له أن يقع بعشرات الأخطاء النحوية يومياً، بخلافِ من عرف أن الفاعل يكون مرفوعاً إلا أنه أخطأ في مرة واحدة فقط. وإجمالاً فالذي أخطأَ في الفكر، لابد أن يقعَ يومياً في أخطاءٍ بالعشرات.

وكما أن الفلسفة هي أم العلوم، فالمنطق هو أساسُها وراعيها. ولدراسة المنطق أسبابٌ وجيهةٌ ودوافعُ كثيرة، وأذكر في هذا المقال بعضاً منها، لعل ذلك يكونُ تشجيعاً لمن أحبَّ أن يدرسَ المنطق، حتى لو لم يكن متخصصاً بالفلسفة، فالمنطق ليس فلسفة خاصة بالنخبة، أو طَلاسم كما يتصورُ البعض! بل على العكس هو علمٌ سهلٌ وممتعٌ ومهمٌ جداً في حياتنا، ويسهلُ على أي شخص تعلمه مهما كان مستواه العلمي.

أولاً: المنطق لعبة ذهنية ممتعة!

المنطق

حقاً، إن دراسة المنطق كتعلم لغة جديدة، ولكن بمفردات قليلة وبضع قواعد. وبهذه القواعد ستقوم بالكثير من الأمور، كتحليل الجُمَل العادية والنصوص اللغوية وفهمها بشكل أفضل، وعندما تكتُب، فإن كتابتك ستكون أكثر قوة، وألفاظك أكثر سلامة ودقة، لأنك ستفهم جيداً العلاقة التي تربط بين الألفاظ والجمل.

وستتعلم كذلك اختبار الحجج والبراهين التي يسوقها محاوريك أثناء محاولتهم إقناعك بشيء ما، وبالتالي دحضها، وبناء البراهين على حججك. وبالتمرين على هذه القواعد ستصبحُ ماهراً فيها، تماماً مثل ألعاب الـ ”puzzles“ فإن كنتَ مثلاً تحب لعبة الـ ”sudoku“ فإنك حتماً ستحب المنطق.

ثانياً: تمييز الغث من السمين هي مهارة ثمينة!

المنطق أساساً هو: ”علمٌ وُضِعَ لصيانةِ الذهنِ عن الخطأ في التفكير، فهو يَدرسُ القواعدَ والقوانين العامة للفكر الإنساني. ويُستخدمُ كميزانٍ لمعرفة ما إذا كان الشيءُ صحيحاً أم خاطئاً“.

فنحن نستخدم طرق الاستدلال المنطقية دوماً لتساعدنا على فهم الأمور بحقيقتها وتفسير الظواهر. فمثلاً لو أردتَ تشغيل ”اللابتوب“، إلا أنه لم يشتغل، فستستدل بذلك على أن البطارية فارغة، فلو قمت بوصله بالكهرباء ولم يشتغل، فستُفكِر باحتمالية أن تكون الكهرباء مقطوعة، ولاختبار ذلك ستُجَرِّب أي جهاز كهربائي آخر لديك، وهكذا دواليك.

في هذا المثال عمليةُ الاستدلال بسيطة، لكن أحياناً قد تكون أمام سلاسل طويلة ومعقدة من الاستدلالات، التي قد تشوبها بعض المغالطات والانحرافات المنطقية، التي ستؤدي بك إلى نتائج غير منطقية؛ لذا فإن تدريب نفسك على بناءِ حججٍ قوية، وكشفِ الحجج السيئة، هي مهارةٌ مفيدةٌ جداً في كل الحقول العلمية وكذلك في الحياةِ اليومية.

ثالثاً: المنطق هو أبو الإقناع

المنطق

البعض يُعرِّفُ فنَ الإقناع على أنه نوعٌ من البلاغة. فالبلاغةُ كالمنطق، تُعتبر جزءاً أساسياً من العلوم الإنسانية. وللأسف، فلم يعد كلا العلمين اليوم يحظيان بالاهتمام الكبير من قِبَل الدارسين. إلا أن الفرقَ بينهما يظهرُ في أن البلاغة قد تكون مجرَّدة من وسائل الإقناع أو الأدلة والبراهين. فهي تشمل مثلاً: مناشدة العاطفة، الصور والرسومات الاستفزازية، أو الجمل المسرحية الذكية والشعارات. وليس هنالك شكٌ في أن هذه الطرق يمكن أن تكون مقنعة في بعض الأحوال. ولكن المنطق الجيد كذلك يمكن أن يكون مقنعاً.

حسناً، أنا لا أقول إن الحجج المنطقية القوية ستفوز دائماً على الوسائل البلاغية الذكية، فليس كل البشر يرتاحون إلى المنطق والدليل، حيث نجد الكثير من الناس تُقنعهم أوهامٌ لا تحملُ أي ذرَّة منطق، كما أن الكثير من البشر يرتاحون إلى الجُملِ البلاغيةِ والخِطاباتِ الرنانةِ التي تلامسُ عواطفهم. ولكن في النهاية أعتقدُ أن الحججَ المنطقية القوية ستبقى وستحتل رأس القائمة.

رابعاً: دراسة المنطق تكشف لك المغالطات والانحرافات المنطقية

يكثرُ استخدامُ المغالطات المنطقية في ثقافتنا. السياسيون، النُقَّاد، المُعلنون، المُتحدثون الرسميون للشركات. الجميع تقريباً يستخدمون المغالطات المنطقية، فتجدهم يهاجمون رجال القش، ويستندون إلى رأي الأغلبية، ويطاردون الرنجة الحمراء، أو يرفضون وجهة نظر ما، فقط لأنهم يكرهون صاحبها. إن معرفة وإدراك هذه المغالطات سوف تساعدك على أن تصبح بارعاً في فهم ونقد ما تقرأه وتسمعه وتفكر به.

—مهلاً! ما هي هذه المغالطات؟! حسناً لم أشأ أن أتوسع في شرحها الآن، لأنني سأقوم بكتابة مقال عنها قريباً.

خامساً: المنطق هو أساسُ النُظُم والمناهج

قلنا سابقاً أن المنطق هو أساس العلوم، الاجتماعية، الإنسانية، الرياضيات، علوم الكمبيوتر والفلسفة، في الواقع هو أساسُ كل العلوم التي تُستَخدَم بها الحُجَجُ المنطقية وطُرُق الاستدلال والبراهين. فجميع هذه العلوم لها صلاتٌ وثيقةٌ بالمنطق، وقد بُنِيَت وصيغت قواعدُها على أساسه.

فكل من المنطق الأرسطي (الصوري) والمنطق الرمزي الحديث هي صروحٌ رائعةٌ من المعرفة التي تُعتبر من الإنجازات الفكرية الكبرى. وبالتالي فإن إلمامك ومعرفتك في المنطق ستُمهِد الطريق أمامك للتعلم، وستفتح الأبواب أمامك على مصراعيها لفهم وإدراك الكثير من العلوم، بشكلٍ لا تتخيله من السهولة واليسر.

سادساً: الفكر الخالي من الخطأ يجعل من المرء مواطناً أفضل!

هناكَ سقطاتٌ كثيرةٌ يقع بها البشر، مثل انتقاد وجهات نظر شخصٍ ما، بمهاجمته شخصياً، ونرى ذلك كثيراً في البرامج الحوارية وحتى في حياتنا اليومية. هذه المغالطة بلا شك فعالةٌ في بعضِ الأحيان، ولكن هذا ليس سبباً لتفضيلها على المحاججة المنطقية. وبالمقابل، فإن السبب في حاجتنا اليوم إلى التفكير المنطقي أكثر من أي وقت مضى، هو مسعانا لرفع مستوى النقاش السياسي والإعلامي بل حتى مستوى الإعلانات التجارية أيضاً، وحماية الناس من اتخاذ قراراتٍ سيئةٍ بناءً على مقدماتٍ سيئة.

لذلك أرى أن دراسة المنطق تضعكَ على الطريق لتصبح مواطناً أفضل، أعمقُ وعياً، أكثرُ انفتاحاً، وأوسعُ معرفةً.

مقالات إعلانية