in

الحريات الفردية مقابل المصلحة العامة

اليسار او اليمين

في لب التوجه السياسي لأي شخص سواء كان يسارياً (مع وجود سلطات حكومية واسعة) أو يمينياً (مع سلطات محدودة وحريات واسعة) دائماً ما يكون هناك سؤال صعب الإجابة: أيهما تفضل، الحريات الفردية أم المصلحة الجماعية.

قد يبدو السؤال تافهاً للبعض وشديد السهولة حتى، فعند تحديد ميول سياسية غالباً ما يتجاهل الأشخاص الكثير من الحالات التي تقع في نطاق الجدل وينحازون لرأي واحد دون الآخر سواء كانوا يساريين يريدون مصلحة الجماعة دائماً في الطليعة بشكل يحد من العديد من الحريات الشخصية أو يمينيين يريدون حريات شخصية واسعة تؤذي الجماعة في الكثير من الأحيان لكن بين هذين التوجهين يقع أغلب الوسطيين في حيرة من أمرهم اين يرسمون الخط الفاصل بين الحريات التي من الممكن التخلي عنها لمصلحة الجماعة والمصالح الجماعية التي لا تستحق أن يتم الحد من الحرية الشخصية لأجلها.

وإن لم يكن هذا المقال يعطي جواباً قطعياً على مكان رسم الخط الفاصل، فهو على الأقل يناقش الفكرة ويطرح المواضيع الشائكة الواقعة في المنطقة الوسطى حيث لا تظهر المصلحة الجماعية جلية كفاية لتمحي الحرية الشخصية ولا تكون صغيرة كفاية ليتم تجاهلها مقابل الحرية الشخصية.

المصلحة الجماعية حين تضطهد الحريات الشخصية

شعارات الشيوعية أمام العلم السوفييتي
الاتحاد السوفييت أحد أهم الأمثلة حيال قمع الحريات الشخصية مقابل المصلحة الجماعية.

عند النظرة الأولى للموضوع يبدو الأمر سهلاً، فأي شيء ضار بالجماعة لا يجب أن يكون لأحد الحرية في ممارسته. لكن عند التطبيق الفعلي للأمر تبدأ المشاكل في الظهور، فعند إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة عام 1948 رفضت بعض الدول التوقيع عليه لأنه يقدم ”حريات تهدد المصلحة الجماعية“ فالاتحاد السوفييتي رفض فكرة حرية السفر والانتقال بينما رفضت المملكة العربية السعودية فقرة حرية المعتقد والدين.

من حيث المبدأ فالجماعة هنا كان لها مصلحة فعلية في الحد من هذه الحريات، فالاتحاد السوفييتي كان يعيش فترة صعبة اقتصادياً ومن مصلحة الجماعة أن يبقى الأفراد ضمن رقعة البلاد الجغرافية فسفرهم سيستنزف الموارد البشرية للبلاد ويضعف اقتصادها أكثر وأكثر، وكذلك حال السعودية، فمن مصلحة الجماعة ان تكون العقائد موحدة وغير متباعدة للحفاظ على حد أعلى من الانسجام وتجنب النزاعات (خاصة في مجتمع بدوي لا تعنيه حرية التعبير بشكل كبير). المشكلة هنا تكمن في أهمية الحريات المطروحة مقابل المصالح الجماعية المقابلة، فللعديدين وخصوصاً ذوي التوجهات القومية والأممية سيكون منع السفر وإلغاء حرية انتقال الأموال مثلاً أهم من حريات الأشخاص الذين سيعانون من هذا المنع بشكل كبير.

الحريات الشخصية التي تضر بالجماعة

المرقة اليهودية (الهولوكوست)
حرية التعبير تتضمن بمعناها الأشمل حرية التعبير حتى عن الآراء المهينة والمؤذية للآخرين.

عند الحديث عن الحريات ولربما أهمها حرية التعبير يتبادر إلى ذهن الكثيرين فرنسا كونها كانت منذ ثورتها الشهيرة قبل قرنين ونيف تعتبر ”منارة للحريات“، لكن حتى فرنسا التي تتغنى بالحريات تحد من حرية الرأي بمنع أي تصريح ينكر وجود المحرقة اليهودية (الهولوكوست) وكذلك تمنع لبس النقاب (البرقع) وغيره من وسائل إخفاء الشخصية. المنع الأول يأتي لكون ”الهولوكوست“ مثبتاً تاريخياً وإنكاره يعتبر خطاب كراهية تجاه اليهود وكل من عانى تحت الظلم النازي خلال الحرب العالمية الثانية والثاني يأتي لكون النقاب وأي وسيلة أخرى لإخفاء الشخصية تشكل خطراً أمنياً على المجتمع بشكل عام.

هنا يظهر الصراع بين الحرية والمصلحة العامة من جديد، فهل مشاعر الجماعة هنا أهم من حرية شخص لا يصدق المحرقة؟ وهل أمان الجماعة أهم من حرية إخفاء الهوية والتجول بشكل مخفي؟ الجواب ليس بسيطاً هنا بل يتباين بشكل كبير بين الأشخاص باختلاف توجهاتهم وبيئاتهم، فبالنسبة لليهود مثلاً فمشاعرهم أهم من رأي أولئك المنكرين للمحرقة وبالنسبة للمسلمين مثلاً فحرية ارتداء النقاب (البرقع) أهم من المخاوف الأمنية.

حالات جدلية بشأن الحرية مقابل المصلحة العامة

1. ”حق عدم القتل“:

جنود أمريكيون مستدعون للالتحاق بالجيش في حرب فييتنام
كثيراً ما تنتهك الحريات في زمن الحروب، والتجنيد الإلزامي واحد من أبرز هذه الانتهاكات.

ربما لا يكون الموضوع جدلياً اليوم في الدول الغربية، إلا أنه ما زال مهماً في العديد من البلدان حيث لا يزال التجنيد إلزامياً. يمكن تلخيص الفكرة هنا بأن التجنيد الإلزامي للأفراد القادرين على القتال أمر لا شك بكونه لمصلحة الجماعة، ففي حال عدم وجوده سيتهرب العديدون من القتال في الحروب مما يجعل الجماعة أضعف وأسهل للاحتلال والسيطرة عليها، بالمقابل فهذا الأمر يعد انتهاكاً واضحاً لحرية الأشخاص بكونهم معارضين للقتل أو العنف أصلاً عدا عن حريتهم في الحفاظ على حياتهم قدر الإمكان.

أحد الأمثلة هنا قد يكون الوضع في سوريا في مواجهة التمدد الكبير لتنظيم ”الدولة الإسلامية“ (داعش)، فبينما يرى العديدون أن من واجب كل قادر على حمل السلاح والقتال أن يلتحق بالقوى المحاربة للتنظيم الإرهابي، فالعديدون من المجبرين على الدخول في هذه الحرب يعارضون ذلك فهم لا يرغبون بالقتل والأهم أنهم لا يرغبون بأن يتعرضوا للأذى.

2. الرموز المهينة:

ترسيم عضوٍ جديد في جماعة Ku Klux Klan KKK
لباس جماعة KKK هو مجرد قطع قماشية، إلا أنه يلعب دور تهديد لفظي بالقتل والاضطهاد لو كان الناظر من الأقليات المستهدفة.

قد لا يكون العديدون في العالم العربي يعرفون الجماعة المعروفة باسم Ku Klux Klan (KKK) والتي كانت تقتل العبيد المحررين أو الهاربين في بدايات إلغاء العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال الجماعة موجودة اليوم نسبياً فقد توقفت عن ملاحقة الأمريكيين من أصل إفريقي إلا أنها لا تزال مستمرة في الخطاب العنصري ضدهم وضد أي أقليات ليست من عروق أوروبية.

لا زال العديد من المنتسبين إلى الجماعة يرتدون زيها (والذي هو عباءة مع قبعة مدببة باللون الأبيض) ويوشمون شعاراتها وشعارات النازية وغيرها، هذا التصرف يندرج تحت مسمى حرية التعبير فعلياً إلا أنه يشكل إهانة كبيرة للعديدين كما أنه يشكل تهديداً حقيقياً للأمريكيين من أصل أفريقي كونه يصنف تحت ما يسمى بخطاب الكراهية. بشكل مشابه لهذا يرفع العديد من سكان الولايات الأمريكية الجنوبية علم الاتحاد (القوات الجنوبية التي حاربت لصالح إبقاء العبودية في الحرب الأهلية الأمريكية) بينما يشكل إهانة كبيرة لأي متحدر من سلالات العبيد ويشكل تهديداً لأي أقليات تعيش في تلك المنطقة.

3. الملابس وإخفاء الهوية:

متظاهرون من Anonymous يحتجون على تصرفات كنيسة Scientology
إخفاء الهوية حرية شخصية مهمة، لكن المخاوف الأمنية كثيراً ما تلغي هذه الحرية في سبيل الاستقرار.

يندرج تحت بند الملابس التي تخفي الهوية الأقنعة والأزياء التنكرية وبطبيعة الحال النقاب (البرقع). هذه الملابس تعد خيارات في النهاية لذلك تعد حرية شخصية. لكن كونها حرية شخصية يتم التغاضي عنه لأجل مصلحة الجماعة كونها تساعد المجرمين والإرهابيين على إخفاء هوياتهم وتجنب اكتشافهم من قبل الأجهزة الحكومية وبالتالي فهي تهديد أمني كبير لذلك تحظرها اليوم بضع دول أوروبية أشهرها فرنسا المذكورة آنفاً.

4. التدخين والكحول والمخدرات:

عقاقير دوائية ومخدرات وتبغ

في النطاق الضيق، يعد التبغ والمشروبات الكحولية ومختلف أنواع المخدرات (سواء كانت ذات أساس نباتي أو مصنعة بالكامل في المخابر) من الحريات الشخصية، فهي تؤثر على المستخدم بشكل أساسي مما يجعلها ليست من شأن الجماعة، إلا أن الأمر يختلف عند النظر إليه من وجهة نظر المصلحة الجمعية حيث أن هذه المواد تؤثر على افراد من الجماعة ومحيطهم بالضرورة وبالمحصلة فحظرهم يعتبر أمراً لمصلحة الجماعة.

الأمر هنا أن الناس غير مستعدين للتخلي عن حرياتهم الصغيرة التي تجلب لهم السعادة مقابل المصلحة الجماعية فحظر الكحول الذي كان فعالاً في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن العشرين لم يعط أي أثر فعلي بسبب ازدهار تهريب الكحول، كما ان معدلات استهلاك المارجوانا (الحشيش) بين الشباب في البلدان التي تحظر استخدامه أعلى منه في بلدان مثل البرتغال وهولندا حيث شراؤه واستهلاكه قانوني تماماً.

لماذا لا تكون الحريات مطلقة؟

الاشتراكية مقابل الرأسمالية
لكل من مؤيدي الاشتراكية والرأسماية منظور مختلف لمدى أهمية الحريات الشخصية والمصلحة الجماعية

الحريات الواسعة هي أحد أهم ما يرغب به اليمينيون عموماً، فهم يفضلون تشريعاً أقل في الحياة والتجارة وسواها، لكن هذه الحريات تنتج مشاكل كبيرة أهمها وجود سوق حر تماماً أو ذي تشريعٍ محدودٍ جداً بشكل يتيح تراكم الثروات والأموال لدى البعض مقابل فقر مدقع لآخرين كما ان نقص التشريع في المجال الصحي يحول الموضوع إلى تجارة بشكل كامل بحيث يصبح قلة هم من يحصلون على الرعاية الطبية الجيدة مقابل عدم حصول فئات أخرى على أي رعاية صحية أو على مستوى متدنٍّ منها.

التوازن بين الحريات والمصلحة الجماعية هو الأساس الذي تبنى عليه الأنظمة السياسية والاجتماعية، ففي البلدان المتقدمة اليوم نوعان أساسيان من هذا التوازن، أولهما هو المائل للرأسمالية كما في الولايات المتحدة حيث التشريعات محدودة للغاية والسوق حر إلى حد بعيد مما أنتج عدم توازن كبير بين فئات المجتمع كما ان الرعاية الصحية التي تعمل كشركات ربحية جعلت النظام الصحي الأمريكي واحداً من الأسوأ والأقل عدلاً في العالم، بالمقابل يعمل النظام الديمقراطية الاجتماعي السائد في الدول الاسكندنافية وألمانيا وهولندا وغيرها بطريقة مختلفة فعلياً، فالحريات أضيق من مقابلها في الولايات المتحدة وإن لم يكن ذلك ملحوظاً تماماً كما ان السوق مقيد بتشريعات عديدة وشديدة بالإضافة لنظام رعاية اجتماعية ورعاية صحية يتيح وجود حياة بمستوى مقبول للجميع وتحثيث رعاية صحية لكل من يحتاجها كما أنه يقلل من الفراغ الواقع بين الفئات الاجتماعية العليا والدنيا.

في النهاية، ومن وجهة نظر شخصية فأنا أرى الموقف الوسطي بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي هي الأفضل، ففي النهاية أنا أريد مجتمعاً عادلاً ذا توزع منتظم نوع ما للثروات والأفضلية ويتيح حداً معيناً من الحريات وخصوصاً حرية التميز، ففي نظام الديموقراطية الاجتماعية لن تترك أي فئة دون شيء (فالجميع يمتلك الحق بالتأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية) كما ان الجميع يمتلك الفرصة للتقدم لمستويات أعلى اجتماعياً ومالياً بشكل لا يقتل الدوافع للأشخاص كما هي الحال في ظل الأنظمة الاشتراكية المطلقة. لكن ذلك لا يلغي وجود حيرة دائمة حيال مكان رسم الخط الفاصل بين مناطق سيطرة الحريات الفردية والمصلحة الجماعية.

مقالات إعلانية